د. خالد حنفي علي
ما بين جرائم ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وأخرى بأيدي المتنازعين أنفسهم في السودان، ومن قبلها في ساحات ليبيا واليمن وسوريا وغيرها، تدفع منطقتنا العربية ثمنًا فادحًا لصراعات عنيفة يصبح معها خيار “الفضح“، أي الإدانة والتشهير العلني بمرتكبيها ومحاسبتهم، هو الأصل.
بينما قد يؤدي الصمت عليها إلى إهدار حقوق الضحايا وتغذية الكراهية، وجعل منطقتنا عصية على الخروج من دائرة العنف بسبب “العدالة الغائبة“.
مع ذلك، ليس كل الصمت سلبيًا ومُؤجِّجًا للصراعات، بل قد يشكل في بعض السياقات مدخلاً لتهدئتها، أو تسويتها أو بناء السلام في المجتمعات الخارجة لتوها من صراعات عنيفة.
ترجع تلك الأدوار المزدوجة للصمت– كامتناع عن الكلام بشكل طوعي أو قسري– إلى اختلاف تأويلاته وارتباط مغزاه بملابسات السياق، حيث تتراوح معانيه بين اللامبالاة والموافقة والعجز والمقاومة والقوة والإصغاء والاحترام للآخر.
بل إن بعض الخطابات الملفوظة والسياسات العلنية قد تكون “صامتة“، إن خلت من الحقائق أو نزعت للتضليل والانحياز أو لم يكن لها أثر فاعل في مجابهة المخاطر، أي يتساوي عندها الكلام بعدم الكلام، والفعل باللافعل، بما يجعل الصمت ظاهرة معقدة التفسير كونها قد تكون مرئية وكامنة في المجال السياسي.
مع المعاني المتعددة للصمت، تصبح مدلولاته في سياقات الصراعات أكثر إرباكًا، وتفتح الباب أمام عدم اليقين ومخاطر سوء الإدراك والتفسير، لا سيما أن الفاعلين الصامتين، سواء أكانوا أفرادًا أو جماعات أو دولاً، قد لا يفصحون صراحة عن نواياهم ودوافعهم أو ما هو مسكوت عنه، ومن ثم يتركون تفسيرات مواقفهم الصامتة لمدركات وتصورات الآخرين، مما قد يترتب عليها آثار متباينة في التفاعلات السياسية.
فلو أن طرفًا متنازعًا اعتبر صمت الآخر “لا مبالاة” أو “ضعفًا“، فقد يلجأ إلى فرض سياسات الأمر الواقع أو التصعيد في الصراع، بينما إن نظر له كقوة أو رسالة تهدئة، فقد يؤدي إلى تخفيض حدة الصراع أو التمهيد للتفاوض.
هذا الارتباط المحتمل بين الصمت والصراع ليس مباشرًا، أي يمر عبر بيئة وسيطة يتحدد فيها معنى الصمت، وفقًا لطبيعة الصراع (ظرفي أم ممتد)، المرحلة التي يمر بها الصراع، نمط توازنات القوى، تقديرات الفاعلين المتنازعين لتوقيت الصمت وجدواه، تفسير الآخرين للمواقف الصامتة وردود فعلهم عليها، وأخيرًا، السياقات الثقافية التي تجعل معنى الصمت قد يختلف من حالة إلى أخرى.
من هنا، يلعب خيار الصمت أدوارًا متباينة في ديناميات الصراعات الداخلية أو الدولية، فقد يغري بالعدوان أو يحد منه، وهو ما تسعى هذه الورقة لاستكشاف أبعاده وإشكالياته، مع الاستدلال ببعض المواقف والحالات الصراعية من الإقليم والعالم، لكن الورقة تنطلق أولاً من فهم تطور معاني الصمت وأشكاله ووظائفه.
الصمت كـ“سياسة“.. بين العجز والقوة والتواصل
تطور فهم الصمت في الأدبيات السياسية، فبعدما كان ينظر إلى الامتناع عن الكلام أو الإيماءات على أنه عزلة وانقطاع للتواصل بين أطراف سياسية أو عدم التعبير طوعًا أو كرهًا عن التفضيلات السياسية، بدا في أحيان أخرى استمرارًا لهذا التواصل، أو تعبيرًا عن تلك التفضيلات، عبر طرق رمزية وغير ملفوظة أو حتى كأداة حيادية للتفكير قبل إصدار الاستجابات.
انعكس هذا التطور على طبيعة أشكال الصمت ووظائفه، على نحو يمكن تبيانه في السياسات الداخلية أو الدولية.
أولاً: السياسات الداخلية
مالت الأدبيات الليبرالية، بحكم انطلاقها من الدفاع عن حريات الأفراد إلى اعتبار الصمت غيابًا أو خللاً أو قصورًا، فعندما يمارسه الفاعلون السياسيون فإنه بمثابة إعلان عن “موتهم مجازيًا“.
لذا، بدا العزوف عن المشاركة السياسية في الانتخابات، كأحد أوجه الصمت، مهددًا للديمقراطية، لكون الأخيرة تتأسس على “الصوت“، فمن دونه لا يتشكل مجال عام يعبر فيه الأفراد عن تفضيلاتهم وآراءهم كما يذهب هابرماس، ولا تستطيع الحكومات “التمثيل السياسي” لتلك التفضيلات.
تعززت تلك النظرة السلبية العامة للصمت، مع انتشار الحركات الحقوقية والنسوية التي تسعى لكسر الصمت عن انتهاكات حقوق الإنسان أو مواجهة الهيمنة الذكورية التي تفرض معايير ثقافية واجتماعية تحرم النساء من التعبير عن أصواتهم.
إلا أن الصمت، كتعبير عن اللامبالاة، قد يأخذ “شكلاً طوعيًا” في الأنظمة الديمقراطية، أي تتاح الفرصة للمواطنين للمشاركة، لكنهم يعزفون عنها بإرادتهم الحرة كون حق الصمت كحق الكلام جزء من الحريات العامة.
في المقابل، قد يصبح الصمت “قسريًا” في سياقات الأنظمة التسلطية، حيث يسعى طرف مهيمن إلى إسكات الآخر بالقوة لمنع تأثيره في القرار الجماعي. هنا، ارتبط الصمت كحالة عجز بأشكال العنف التي طرحها جالتونغ.
فالعنف المباشر من طرف على آخر قد يمنعه من التعبير عن نفسه، والعنف الهيكلي، أي توزيع غير متكافئ في الوصول إلى السلطة والموارد، قد يحرم جماعات سياسية من حقوقها، أما العنف الثقافي، فيشرعن الإسكات القسري عبر استخدام سرديات معينة لإضفاء الشرعية على العنف المباشر أو الهيكلي.
لا يمنع ذلك من ظهور الصمت القسري، وإن كان بشكل غير مباشر، في الأنظمة الديمقراطية، عندما تتاح الفرصة للأفراد والجماعات للمشاركة، لكن لا يُسمع لأصواتهم، بسبب هيمنة الأغلبية على الأقلية، أو التحيز ضد فئة أو جماعة معينة.
مع نشوء اتجاهات نقدية ما بعد حداثية تسعى إلى تجاوز السرديات الكبرى والأبنية المهيمنة على فهم اللغة والسياسة في عالمنا.
تغيرت طريقة فهم الصمت إثر كتابات جاك دريدا وميشيل فوكو وغيرهما، حيث نظر له كوسيلة للتعبير والتمثيل للآراء والتفضيلات السياسية.
فمن منظور رمزي، يحمل الصمت معانٍ وإيحاءات بل وقدرة على التواصل وبعث الرسائل الضمنية بغرض التأثير في الآخر، بالتالي فمثلما يعبر الامتناع عن الكلام عن العزلة والضعف والعجز فقد ينطوي أيضًا على الرفض والمقاومة والقوة.
بهذا الفهم، أصبح الصمت “سياسة“، وفقًا لفيرجسون، أو مكملاً لها أو حتى بديلاً عندما لا تتاح نوافذ التعبير السياسي كونه يتسم بالقدرة على التكيف مع البيئات السياسية المختلفة، أيًا كانت درجة ديمقراطيتها أو تسلطيتها، فضلاً عن تجنب كلفة الصدام المباشر بين الأطراف السياسية بما يبقي خط الرجعة بينهم بسبب عدم الإعلان صراحة عن المواقف، كما يمنح الفرصة للتأمل والتفكير وتقييم المواقف السياسية، قبل إصدار الاستجابات خاصة في أوقات الأزمات.
لم يعد بذلك تفسير العزوف عن المشاركة الانتخابات مجرد “لا مبالاة” فقط، إنما قد يكون امتناعًا عقلانيًا لتوصيل رسالة رفض من المجتمع لسياسات السلطة، كما أن الصمت الظاهري للمجتمعات الخاضعة لأنظمة تسلطية لا يمكن فهمه فقط على أنه “رضوخ” للقوة، فقد تكمن خلفه ديناميات قوة غير مرئية قادرة على التغيير دون صراع علني مع السلطة، على نحو طرحه جيمس سكوت في المقاومة اليومية أو آصف بيات، عندما حاول تفسير كيف يغير بسطاء الشرق الأوسط عبر الزحف الهادي الصامت.
لقيت تلك التفسيرات للصمت أهمية أيضًا في الأنظمة الديمقراطية، مع تنامي أزمة العجز الديمقراطي في الغرب، على خلفية تزايد فجوة عدم الثقة بين المجتمعات والتمثيل المؤسسي عبر البرلمانات أو الأحزاب التقليدية.
تبلورت، في هذا السياق، أشكال أخرى للصمت، غير تلك التي تراه، كحالة عجز، مثل، الصمت المُقاوِم، الذي يسعى إلى التغيير السياسي عبر المسيرات والاحتجاجات الصامتة التي تحوز مساحات في الأماكن العامة وترفع لوحات ورموز دالة للدفاع عن قضايا حقوق الإنسان والمناخ والمرأة، ووقف الحروب.
برز أيضًا الصمت التواصلي، كوسيلة للسياسيين لبعث رسائل ومعلومات للجمهور، من خلال لغة الجسد (إشارات باليد أو الوجه أو الرأس) حيث يمكن عبرها إظهار مشاعرهم وتفضيلاتهم السياسية بالرفض أو القبول أو الغضب من سياسة معينة، فضلاً عن الصمت التوافقي، أي الإسكات الجماعي المتفق عليه لقضايا عامة، كحظر مناقشة العبودية أو التعاطف الجماعي لتعزيز الهوية والذاكرة الجماعية كالحداد الوطني على ضحايا الحروب.
أحد الأمثلة الموحية للصمت، كمجال للقوة، ما فعلته أمهات الأبناء المختفين قسريًا في الأرجنتين، على مدار أربعة عقود، منذ الحكم العسكري في الفترة بين 1976-1983، حيث ينظمن مسيرات صامتة أسبوعيًا للضغط على الحكومة لمعرفة أماكنهم، ومحاكمة الجناة، واستطعن بالفعل محاكمة أكثر من ألف من المتورطين في تلك الانتهاكات في عام 2016.
…
يتبع
***
خالد حنفي علي ـ باحث مصري في مركز الإهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
_____________________