أسماء البنا

الانتقال الديمقراطي

يشير مفهوم الانتقال الديمقراطي في أوسع معانيه إلى الانتقال من نظام حكم غير ديمقراطي إلى نظام حكم ديمقراطي، إذ يمثل عملية يتم من خلالها تفكيك النظام غير الديمقراطي وبناء نظام ديمقراطي جديد.

وتشمل العملية عناصر النظام السياسي مثل البنية الدستورية والقانونية والمؤسسات والعمليات السياسية. فضلًا عن ذلك تشهد عملية الانتقال الديمقراطي صراعات ومساومات وعمليات تفاوض بين مراكز القوى

ويرى لويس بول أن الانتقال الديمقراطي هو مرحلة من تغيير النظام تبدأ عند نقطة ما حينما تبدأ الأنظمة الاستبدادية الشمولية بالانهيار، وتضع دستورًا وهياكل ديمقراطية جديدة، وتعدل النخب السياسية سلوكها بما يتفق مع قواعد الديمقراطية المقررة.

أما علي الدين هلال فيرى أن عملية الانتقال الديمقراطي تمثل مرحلة تحول جوهري في طبيعة النظام السياسي وفي علاقة الدولة بالمجتمع، ومن ثم فإنها مرحلة تأسيسية تؤثر في شكل النظام الجديد وسماته وتلقي بظلالها على مسار التطور الذي يأخذه النظام.

ويقصد بمفهوم الانتقال الديمقراطي مجموعة من العمليات التي تحقق انتقال نظام سياسي من الحكم السلطوي إلى الحكم الديمقراطي.

ويتضمن هذا التعريف بُعدين: ثقافيًا ومؤسسيًا.

أما البعد الثقافي فيشير لتعميق مبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والحريات والواجبات وتوسيع دائرة المشمولين بها.

بينما يشير البعد المؤسسي إلى تضمين ممارسات التعددية الحزبية والتنافسية المؤسسية في الجسد السياسي.

ويشمل ذلك تعديلات دستورية وتنظيمية وإعادة توزيع السلطة والنفوذ في المجتمع وتوسيع دائرة المشاركة فيها. وبذلك يتضمن الانتقال إلى الديمقراطية إدخال المفاهيم والممارسات السياسية التنافسية على أساس مؤسسي.

من الناحية العملية يشير تعبير الانتقال إلى الديمقراطية إلى المرحلة التي تلي سقوط النظام السلطوي، وتبدأ بوصول الحكام الجدد إلى السلطة واضطلاعهم بالتأسيس لنظام سياسي جديد تتضمن عناصره إعداد الدستور والتشريعات المنظمة للحياة السياسية وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية.

ويمثل استكمال البناء الدستوري لسلطات الدولة نهاية عملية الانتقال، وذلك في حالة استمرار هذا البناء واستقراره. وفي هذه الحالة تبدأ عملية تعزيز الديمقراطية، وهي تشير إلى استقرار المؤسسات الديمقراطية على النحو الذي تصبح فيه جزءً من الثقافة السياسية والنظام العام للمجتمع.

أما إذا لم يستقر البناء المؤسسي الذي أنشأته مرحلة الانتقال فعندها تبدأ مرحلة انتقال ثانية، أو تحدث العودة إلى النظام القديم فيما يسمي بالارتداد السلطوي أو السلطوية الجديدة.

ورغم اختلاف الباحثين حول تعريف مراحل الانتقال إلى الديمقراطية، إلا أنه يمكن تحديد ثلاثة مراحل:

أولا، مرحلة انهيار النظام السلطوي، وتمثل بداية عملية التحول لنظام جديد، وتشهد هذه المرحلة صراعات ما بين المتشددين المتشبثين بالنظام القديم، والمعتدلين الذين يرغبون في إجراء الإصلاحات على هذا النظام.

ثانيًا، مرحلة التحول الديمقراطي، وهي المرحلة التي ستحدد مصير عملية الانتقال إلى الديمقراطية بأسرها، إذ تتزايد إمكانية الارتداد والعودة إلى شكل أكثر تسلطًا من النظام السابق، وفي هذه المرحلة نجد تنازلات من القيادة الحاكمة وتصاعدًا في المطالب الإصلاحية، والتحول إلى الليبرالية والتوسيع من حريات الأفراد، إيذانًا بالانتقال من النظام السلطوي، إلى النظام الديمقراطي.

ثالثًا مرحلة الرسوخ الديمقراطي، وفي هذه المرحلة يتم التخلص من مؤسسات النظام السلطوي القديم، وتحل محلها مؤسسات جديدة، ويسود التوافق بين اللاعبين السياسيين، والاعتقاد بان الديمقراطية هي النظام الأمثل وحتميتها من أجل استمرار النظام.

ويرى الباحثون أن أهم المراحل الثلاثة، وأكثرها خطرًا، هي المرحلة الثانية؛ بسبب الاحتمالات المتزايدة للتعرض لانتكاسات سياسية نتيجة للتركيبة الهجينة للنظام السياسي، إذ أنه حال عدم استقرار البناء المؤسسي الذي أنشأته تلك المرحلة، قد تبدأ عملية انتقال ثانية، أو تحدث عودة إلى شكل متطور من النظام القديم، فيما يُعرف بـ الارتداد السلطوي، أو السلطوية الجديدة.

الارتداد السلطوي والنظم السياسية الهجينة

رغم كثرة الدول التي شهدت انتقالًا ديمقراطيًا على مستوى العالم، ونجاح بعض هذه الدول في الانتقال والترسيخ الديمقراطي؛ إلا أن البعض الآخر لم يشهد تأسيس نظم ديمقراطية مستقرة وراسخة، وإنما ارتدادًا سلطويًا وظهور أشكال من النظم السياسية الهجين، مثلما حدث في المنطقة العربية وإفريقيا وبعض دول أمريكا اللاتينية ودول الاتحاد السوفياتي السابق، فبقيت دون استكمال مسار التحول الديمقراطي.

يمكن تعريف النظم الهجينة بأنها تلك النظم التي تجمع بين خصائص الديمقراطية وخصائص الاستبداد. إذ بدأت عملية التحول الديمقراطي بإجراءات شكلية، ولم تعزز من قيم وجوهر الديمقراطية، وبالتالي اقتصر التحول الديمقراطي على الانتقال من التسلطية التقليدية إلى التسلطية التنافسية دونما يؤثر ذلك على طبيعة السلطة.

وفي حقيقة الأمر، تمثل هذه الأنظمة نموذجًا للأنظمة المختلطة، التي تنهض على بناء سياسي يلتزم من حيث الشكل بالإجراءات والمؤسسات الديمقراطية، لكن مع الإبقاء على الطابع السلطوي في بنيتهفتتبنى النظم الهجينة الديمقراطية وتمزج مثلًا بين الانتخابات التنافسية والحضور القوى للتسلطية، وبينما تشهد تلك الأنظمة انفتاحًا ديمقراطيًا وانتخاباتٍ دورية؛ فإنها تعيش أيضًا على رواسب الماضي التسلطي من خلال التدخل في العملية الانتخابية والتحكم في نتائج الانتخابات، بالإضافة إلى الحضور القوى للمؤسسة العسكرية. وتختلف الصفة الهجينة من نظام لآخر حسب كيفية تدخل السلطة في عملية التحول الديمقراطي والدور الذي تمارسه.

وقد يعتمد النظام الهجين في بقائه وفرض سلطته على مصادر قوة داخلية كأن يسيطر النظام على الموارد الأولية بوصفها مصدرًا للدخل، وأن يبني عقيدة الجيش العسكرية على أساس وظيفي يخدم مصالحه، بالإضافة إلى تأسيسه أجهزة أمنية داخلية تضمن له تثبيط معارضيه.

وتكمن أهمية مصادر القوة هذه في كونها أداةً فعالة لتجنيد الأنصار ومعاقبة الخصوم، وكلما كانت القوة ناعمة كالبيروقراطية والاقتصاد كانت مواجهة الخصوم أقل تكلفة.

كما قد تلجأ بعض الأنظمة لمصادر قوة وهمية، كأن تدعى وجود خطر خارجي، بما يصرف الأنظار عن القضايا الداخلية أو إلهاء المواطنين بقضايا مختلفة بما يغير من أولوياتها، كفرض أوضاع اقتصادية تدفع تركيز المواطن إلى حياته اليومية أو بخلق بؤر تهديد أمنية داخلية والتعهد بمحاربتها، كي يصبح الحديث عن التغييرات الجذرية في سياق التحول الديمقراطي أمرًا غير مستساغ في ظل التهديد المختلق.

بالإضافة إلى كون النظام في بنيته يعتمد على بعض الممارسات الديمقراطية كمصدر للشرعية، وخصوصا الانتخابات، بما يمنحه قوة لاستمراره.

وقد اختلفت القراءات النظرية حول موضوع الأنظمة السياسية الهجينة من حيث اعتبارها مرحلة انتقالية تقع بين الاستبدادية والديمقراطية، أو اعتبارها مرحلة انتهت إليها جهود التحول الديمقراطي لحالات معينة فشلت في الوصول إلى ديمقراطية جيدة وراسخة.

تذهب القراءة الأولى حول الأنظمة الهجينة لاعتبارها أنظمة سياسية سمحت في إطار تحولها الديمقراطي بالعديد من مظاهر الديمقراطية، وعلى رأسها الانتخابات التنافسية، ولكن دونما يفضي ذلك إلى جودة في الديمقراطية. تلك القراءة تعتبر أن المجهودات للتحول مازالت مستمرة.

أما القراءة الثانية فترى أن النظام السياسي الهجين هو مرحلة انتهى إليها مسار التحول الديمقراطي الذي فشلت فيه حالات عديدة عبر العالم، إذن فإنه ليس تحولًا للديمقراطية، وإنما هو تحديث للأنظمة الاستبدادية أو الشمولية التي أجبرتها ظروف داخلية وأخرى خارجية على اتخاذ تدابير سياسية وقانونية نحو ديمقراطية محددة جدًا، عبر انتخابات تنافسية تعمل على بقاء الأنظمة السياسية القائمة وليس استبدالها ديمقراطيًا.

الانتفاضات العربية والاستثناء الديمقراطي

جاءت موجة الانتفاضات التي شهدها المنطقة العربية منذ أواخر عام 2010 والتي اصطلح على تسميتها «الانتفاضات العربية» والتي انطلقت شراراتها الأولى من تونس ثم امتدت لتشمل مصر وليبيا واليمن وسوريا، وبدرجة أقل بلدانَا عربية أخرى.

فكانت تضحية محمد بو عزيزي في تونس الشرارة التي أشعلت موجة من الانتفاضات أدت إلى سقوط نظام زين العابدين بن علي. وبعد أقل من شهر من سقوط بن علي، أسقط المحتجون الرئيس المصري حسني مبارك ليتنحى بعدما قضى في الحكم ثلاثين عاما.

وفي اليمن، والتي انتقلت فيها السلطة بعد عملية تفاوض على مراحل، بإنهاء حكم الرئيس عبد الله صالح في فبراير 2012، بعدما ظل في الحكم ثلاثة وثلاثين عامًا. إلا أن الاستقرار النسبي كان هزيلًا؛ فقد تصاعدت وتيرة حركة الاستقلال في الجنوب والتوتر الطائفي.

فيما شهدت ليبيا سقوط النظام في أغسطس 2011 ونجحت في الترتيب لإجراء انتخابات حرة شهدت إقبالًا كبيرًا من الناخبين في يوليو 2012. ومن الجدير بالذكر أن الثورات العربية نجحت في زحزحة حاجز الخوف، وطرحت إمكانية التغيير ومكنت الإرادة الشعبية.

في 2018 تجددت الاحتجاجات، لتمثل موجة ثانية من الانتفاضات العربية في العراق ولبنان والجزائر والسودان. وقد طرحت تلك الانتفاضات العديد من القضايا والإشكاليات حول مقولة الاستثناء الديمقراطي العربي، وإمكانية تحقيق التغيير والانتقال الديمقراطي في المنطقة في ظل الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتأزم.

كما عبرت تلك الانتفاضات عن موجة عنيفة من الرفض السياسي واسع النطاق للأنظمة الاستبدادية. فرغم الاختلاف بين أنظمة الحكم العربية؛ إلا أنها تشابهت في العديد من الخصائص، لذلك جاءت مطالب الفئات الاجتماعية متشابهة، وشملت الحريات السياسية وتعزيز الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية.

بمعنى آخر طالب المحتجون بعقد اجتماعي جديد بين المواطن والدولة. بحيث يتم النظر إليهم كشركاء في الحكم ومصدر للشرعية، وليس باعتبارهم خطرًا أمنيًا على النظام.

ويمكن القول أن استجابة الأنظمة الحاكمة كانت متشابهة بصفة كبيرة؛ إذ لجأت مباشرة لاستخدام العنف والقمع بشكل مباشر. كذلك تصاعدت قوة النشاط المدني والتحركات الاجتماعية في المنطقة أثناء هذه الفترة؛

فقد تفجرت مشاريع ومبادرات اجتاحت المدن العربية، وكسرت حواجز الخوف التي فرضتها الأجهزة الأمنية، وحولت هذه المبادرات المدن العربية لساحات اعتراض يومية، للتأكيد على الحق في المشاركة والحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية وما يتجاوزها.

يتبع

***

أسماء البنا ـ باحثة في مؤسسة حرية الفكر والتعبير، وباحثة دكتوراه في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة.

________________

رواق عربي

مقالات مشابهة