دحمان داودي
مستقبل العملية الديمقراطية في ليبيا في ظل الوضع الأمني الرّاهن
أيهما أفضل، تبني مشروع وطني لبناء دولة حديثة من خلال الإنتقال من دولة القبيلة إلى دولة المؤسسات التي تعلو الأفراد، أم تبني مشروع ديمقراطي يرسم معالم ديمقراطية بلا تأسيس لدولة حديثة، والأمر يزيد تعقيدا في وضع أمني متأزم وغير مستقر وأمام المواجهات والنزاعات المسلحة بين الأطراف والجهات والقبائل الليبية حيث زادت الفوضى التي نشبت منذ 2911م، لهذا كيف سيكون مستقبل ليبيا والديمقراطية في بيئة أمنية غير مستقرة؟
منذ 2011، تبنى القادة الجدد لليبيا مسارا مختلفا تماما عن الذي عايشوه وتعايشوه قبل ثورة فبراير، حيث سارعوا في تطبيق مؤشرات وجود الديمقراطية كـ (فتح المجال للتعددية والحزبية، وإجراء انتخابات، والتفكير في صياغة وتبني دستور جديد …). ولكن لم يتمكنوا بعد من بناء دولة تطبق فيها هذه المؤشرات بطريقة فعلية، والاكثر من ذلك بسياسات ذات فاعلية على أرض تتميز بالتناقضات الاجتماعية والتجاذبات السياسية والصدامات الاقتصادية بسبب الطفرة النفطية، مما أنتج صراع مصالح بين القوى الداخلية والخارجية على الثروة النفطية.
إن ما تعانيه الشوارع الليبية من فوضى السلاح وغياب الاستقرار لأكبر دليل على ضرورة أن يصبح بناء الدولة بمؤسسات قوية تعلو سلطة قوة الأفراد والمجموعات المسلحة من أولى أوليات الأجندة الرسمية والشعبية قبل التفكير في كيفية وصف هذه الدولة.
ذلك يعني البدء في تأسيس دولة مؤسسات بالمفهوم الحديث، وتنظيم جيش موحد قادر على استتباب الأمن والحفاظ على النظام العام، ثم الانتقال إلى المرحلة الثانية وهي تكريس أسس الديمقراطية.
وذلك يعني فتح المجال للتعددية الحزبية والإعلامية، وتشجيع تشكيل الجمعيات، ومنح المجتمع المدني القوة الكافية للمشاركة في تفعيل الساحة السياسية، وذلك بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية لتحديد السلطات المتعارف عليها من سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية وإعلامية.
لعله من الصعب وليس جزافا القول بأنه من المستحيل أن ينجح المشروع الديمقراطي في ليبيا دون مشروع مؤسساتي لبناء دولة حديثة، وذلك لسبب بسيط، وهو أن هناك دول تملك من المؤسسات الكافية وذات القوة التنظيمية والتسييرية، ولم تصل بعد إلى إنجاح المشروع الديمقراطي بالمفهوم الحديث، فكيف لليبيا التي تفتقد لإجماع حول بناء مشروع وطني يؤسس لدولة حديثة في ظل تصارع الرؤى واختلاف المصالح بين الفواعل الداخلية والخارجية أيضا، فليس مبالغة القول بأن الفوضى في ليبيا تخدم مصالح أطراف داخلية وخارجية، لأنها تسهّل تغلغلهم وسيطرتهم على منابع النفط.
عند دراسة وتحليل الخطاب الغربي حول الحرية والديمقراطية ومختلف القيم الغربية، فإن تطبيقاتها تختلف من دولة غربية لدولة عربية، فهي تدعم من يدعم مصالحها مثلما دعمت حلفائها في أنظمة دكتاتورية عربية في فترة ما، ولكن عندما تصبح مصالحها مهددة، فإنها تتخلى عن عنهم، وتعادي حتى الأنظمة التي تتصف بالديمقراطية.
الواقع أثبت صحة مقولة ونستون تشرشل حول العلاقات الدولية، حين قال: “لا عداوة دائمة، ولا صداقة دائمة، إنما مصلحة دائمة“.
يمكن اعتبار البرازيل دولة ذكية بعد تخلّي رئيسها عن الكرسي بعد نهاية عهدته الرئاسية رغم المطالب الشعبية بتعديل الدستور ليبقى لكنه رفض معلّلا رفضه بمقولته: “أنا أغادر الرئاسة لكن لا تعتقدوا أنكم ستتخلصون مني لإنني سأكون في شوراع هذا البلد للمساعدة في حل مشكلات البرازيل“. هذا ما يدل على أن المسؤولية لا تقتضي وجود المنصب وإنما هي حس انساني بالواجب.
عمل الرئيس “لولا داسيلفا” عملا ديمقراطيا، وحتى أن تعديل الدستور لو تم سيكون مشروعا بعد مباركة شعبه، ولكنه يعلم جيدا أن ذلك سيؤثر سلبا على بلاده المتربَّص بها في الغرب، باعتباره قوة اقتصادية في مجموعة (بريكس) التي تزاحم أمريكا وبقية الدول الكبرى في المجال الاقتصادي.
هذا الأمر غاب أو تعمد الحكام العرب تغييبه في بناء علاقاتهم مع شعوبهم ومع، العالم الخارجي، فاعتمادهم على الريع النفطي جعلهم يعتقدون أن المال سيشتري صمت الغرب للأبد، ولم يعلموا أن الغرب ستخلى عنهم في أول فرصة.
إذا، لتفعيل الخطى الديمقراطية التي انتهجتها ليبيا بعد الانتفاضة من انتخابات، وفسح المجال للتعددية الحزبية، والسعي نحو بناء دستور جديد، لابد من تنظيم القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية الليبية ووضعها في بوتقة مؤسساتية تتكفل بتنظيم، وتعزيز مكتسبات الانتفاضة بطريقة عادلة تخرج البلاد والعباد من مرحلة الصراع المصلحي الضيق إلى مرحلة التشييد والبناء من أجل بناء دولة حديثة قوية ذات سيادة كاملة تتحرر من الضغوطات الخارجية وتريح دول الجوار من الإرهاصات والتأثيرات السلبية لفوضى السلاح والإنفلات الأمني الذي تتميز به البيئة الليبية خاصة مع الصراع المستمر بن فلول النظام السابق والمجموعات المسلحة، مما ينبئ بسقوط ليبيا في مأزق أمني لا تسحد عليه.
…
يتبع
***
دحمان داودي ـ أكاديمي في كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة الجزائر 3
_________________
المصدر : مقتطف من دراسة للكاتب في دورية “ستراتيجيا” ـ العدد 5 السداسي الأول.