د. خالد حنفي علي

ثانيًا: السياسات الدولية

من منظور واقعي، بدا الصمت في العلاقات الدولية تعبيرًا عن نمطي العنف الهيكلي (اختلالات هياكل القوة في النظام الدولي ومؤسساته، حيث تمارس دول الشمال سياسات الإسكات لأصوات دول الجنوب، بما يحرمها من حقوقها في تشكيل السياسة العالمية على أساس تعدد الرؤى والتجارب) أو العنف الثقافي (هيمنة المعرفة والمركزية الغربية على دول الجنوب حتى بعد استقلالها عن الاستعمار).

مع ربط الصمت باختلالات القوة، أصبح الأقوياء هم الأعلى صوتًا ودفاعًا عن مصالحهم، فكلما ازدادت قوتهم زاد احتمال تعرض آخرين للإسكات، بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو ما يوفر استقرارًا لسياسات الهيمنة والتفاوت في النظام الدولي.

انعكس ذلك في لجوء الدول الصغيرة أو المتوسطة إلى خيار الصمت في إدارة تفاعلاتها الخارجية لتجنب كلفة الصدام مع القوى الكبرى المهيمنة، أو إفساح هوامش أكبر للمناورة لتعزيز مصالحها، حيث اكتسب الصمت بعدًا وظيفيًا في التعبير عن إظهار الحياد السياسي في بعض الأزمات الدولية، كما يظهر في الغياب أو الامتناع عن التصويت في المنظمات الدولية لتجنب تهديدات القوى الكبرى بأدوات عقابية، كوقف المساعدات، وايقاف الاتفاقات التجارية أو غيرها.

على سبيل المثال، امتنعت بعض دول آسيا الوسطى عن التصويت لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 في الجمعية العامة للأمم المتحدة للحفاظ على مصالحها التاريخية والأمنية والاقتصادية المتشابكة مع كل من روسيا والصين والقوي الغربية.

اكتسب فهم الصمت أيضًا في السياسات الدولية بعدًا أوسع من مجرد اعتباره خيار الضعفاء أو من هم أقل قوة للتكيف مع اختلالات القوة، حيث بات أداة لإدارة المصالح الخارجية للدول، على اختلاف قوتها، سواء على مستوى إدارة الأزمات والصراعات أو الحفاظ على القوة وبنائها، أو بعث رسائل تواصل ضمني للآخرين دون إفصاح علني قد يسبب توترات دولية.

تعزز هذا الأمر مع التغير في طبيعة النظام الدولي، خلال العقدين الأخيرين، فقد صار أكثر ميلاً لتعددية القوى، في ظل تراجع الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، وصعود الصين وروسيا والهند وغيرها، إضافة إلى انتشار الفهم البنائي لخطابات وسلوكيات الدول، بما يعني إيلاء أهمية للأبعاد القيمية والثقافية والهوياتية في تفسير الخيارات السياسية للدول بما فيها الصمت.

تميل الصين، على سبيل المثال، لنهج الصمت في إدارة بعض الأزمات الدولية لمنع تفاقمها، فقد امتنعت عن التصويت في الأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث يوفر لها هذا الخيار قدرة على الموازنة بين شراكاتها مع روسيا، وإدارة التنافس الدولي مع الولايات المتحدة، ناهيك عن طرح نفسها كقوة وساطة محايدة في هذا الصراع.

من جانب آخر، تنظر بكين لسياسات التكتم كإحدى وسائل تعزيز قوتها وصعودها الهاديء في النظام الدولي دون ضغوط قد تجلبها سياسات الصخب.

قد يعزو هذا الأمر، في جانب منه، إلى طبيعة الثقافة الآسيوية، ذات الطابع الجماعي، التي تعتبر الصمت سلوكًا إيجابيًا ينطوي على تنمية الذات والاحترام للآخر وتعزيز السلم العام. تختلف تلك النظرة نسبيًا عن الثقافة الغربيةذات الطابع الفردانيالتي ترى الصمت معوقًا للأفراد عن ممارسة حقوقهم.

لذلك، تُعطي القوى الغربية سواء أوروبا أو الولايات المتحدة أولوية أكبر لسياسات الفضح على الصمت في إدارة ملفات كحقوق الإنسان سواء لدوافع قيمية أو مصلحية، دون أن يمنع ذلك لجوئها إلى سياسات الصمت بطريقة براجماتية لإدارة مصالحها لبعث رسائل ضمنية لتغيير سلوك الآخرين في الصراعات الدولية، على نحو سيتضح لاحقًا.

الصمت والصراعات.. معاني واستخدامات متعددة

مع تباين معاني الصمت بين العجز والقوة والتواصل في السياسات الداخلية والخارجية، أثار ظهوره في أوقات ومناطق الصراعات جدالاً، فالصراع عبارة عن تناقض بين طرفين أو أكثر في القيم والاحتياجات والمصالح، من ثم يتطلب صوتًاللتعبير عن هذا التناقض على مستوى الخطابات أو السلوكيات.

لكن عندما يحل الصمت (كحالة جمود تتسم بها الصراعات أو ممارسة يمتنع فيها المتنازعون عن إصدار ردود فعل) تصبح هنالك عدة احتمالات لمعانيه.

الاحتمال الأول، غياب الصراع من الأساس، حيث يصبح الصمت عندها دلالة على عدم وجود تناقض على مستوى الأهداف أو السلوكيات، أي هنالك حالة من الانسجام والرضا والموافقة على الوضع الراهن سواء داخل الدول أو في العلاقات فيما بينها.

الاحتمال الثاني، أن هنالك صراعًا صامتًا، أي أن تناقضات المتنازعين كامنة تحت السطح، ولا يتم التعبير عنها علنًا، خشية تكلفة المواجهة العلنية.

الاحتمال الثالث، أن الصراع يكون معلنًا لكنه يمر بمرحلة من الصمت بفعل جمود دينامياته السياسية أو العسكرية، فلا يشهد تغيرًا في توازنات القوى، ولا تقدمًا في تسويته، ويتعرض هذا الوضع للكسر حال طرأت عوامل جديدة تغير توازنات القوى أو نجحت أطراف ثالثة في التدخل لإيجاد حلول وتسويات.

الاحتمال الرابع، وجود صراع علني تتخلله بعض المواقف الصامتة للفاعلين المتنازعين لأغراض مختلفة.

فالمجتمعات المتضررة من الصراع قد تلجأ للصمت للتكيف مع مخاطر البيئة غير الآمنة، حيث تتجنب كلفة الإفصاح العلني عن المواقف، خوفًا من تعرضها لانتهاكات حقوقية من الأطراف المسيطرة أو حتى تتلافي الوصم الاجتماعي، كما يحدث في صمت بعض النساء على جرائم العنف الجنسي.

فيما قد يعبر خيار الصمت لدى النخب العسكرية والسياسية إما عن الضعف بسبب اختلالات توازن القوى أو دراسة المواقف قبل إصدار ردود فعل، أو الإخفاء لعدم إظهار الانشقاقات الداخلية، أو الموافقة الضمنية على تهدئة الصراع أو تسويته أو إظهار القوة من خلال تبني نهج الغموض لإرباك أو ردع الآخر.

مع هذه الاحتمالات، بات خيار الصمت محل اهتمام دراسات السلام والصراع، خاصة في أبعاده الإيجابية لسببين:

الأول، تغير طريقة معالجة الصراعات الداخلية الممتدة بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث باتت تتطلب مقاربات من أعلى (اتفاقات تسوية حول السلطة والثروة) وأسفل (تهيئة المجتمع للمصالحة والسلام)، وهي تستدعي ضمن أدواتها خيار الصمت لتقليل الضغوط على المتنازعين، وإفساح المجال للإصغاء والاحترام والتفهم في المفاوضات، وتجنب القضايا المثيرة للتوترات.

الثاني، أن الصراعات بين الدول تشهد تمسكًا بمبدأ السيادة، وعدم التدخل في الشئون الداخلية، من ثم قد يلجأ الوسطاء أو الأطراف الخارجية المشتبكة مع تلك الصراعات إلى الدبلوماسية السرية، وعدم إعلان المواقف علنًا، كي لا يثيرون حفيظة المتنازعين أو يضعونهم في حرج تحت ضغط الرأي العام.

على أساس تلك الاحتمالات، يمكن طرح أدوار الصمت في مراحل الصراعات بدءًا من نشوبها، مرورًا بتخفيض حدتها وتسويتها، وانتهاءً ببناء السلام في مرحلة ما بعد توقف العنف، مع الاستدلال ببعض الحالات والمواقف الصراعية في الإقليم والعالم.

أولًا: نشوب الصراع وتفاقمه

قد يصبح الصمت محفزًا على نشوب الصراعات، عندما يعبر إما عن الإسكات العمدي بالقوة والعنف، أو الجمود وإهمال تسويته، بما قد يدفع أحد أطرافه إلى كسر دائرة الصمت.

على سبيل المثال، بدا نشوب الثورات في بعض دول المنطقة العربية خلال العقد الأخير، في أحد جوانبه، كتمرد لفئات من الصامتين على العنف الممارس ضدهم لعقود بأشكاله المباشرة والهيكلية والثقافية.

لكن تلك الثورات خلّفت صراعات أهلية أدت إلى انتشار الإرهاب والمليشيات والتدخلات الخارجية، مما أعاد إنتاج دورة الإسكات القسري على يد نخب جديدة مهيمنة.

في اليمن، سيطرت جماعة الحوثيين على الشمال، وسعت إلى إسكات معارضيها في الجنوب بالسلاح والعكس. بالمثل، فعلت مليشيات ليبيا في مجابهة من يرفضونها، ولا يختلف الأمر في سوريا والسودان.

مع تعثر تسوية تلك الصراعات لسنوات ممتدة، فقد خلق ذلك صمتًا آخر يتعلق بجمود توازنات القوى بسبب عرقلة النخب المهيمنة للتسويات، وهو صمت قابل للكسر ما إن تنشأ تغيرات في التوازنات الداخلية أو الخارجية.

أما حالة الجمود الصراعي، فقد تصبح نوعًا من أنواع فخاخ الصمت، بسبب سوء إدراك وتفسير ما وراء السكوت من نوايا ودوافع، فقد يرى أحد الأطراف المتنازعة الجمود عجزًا، من ثم لا يولي أي اهتمام بتسوية الصراع، بينما يعتبره الطرف الآخر ظرفًا مؤقتًا سيكسره ما إن تتاح الفرصة لذلك.

قبل هجوم حماسعلى إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، بدت عملية السلام مجمدة، واليمين الإسرائيلي المتطرف مندفع نحو الاستيطان في الضفة الغربية وحصار غزة، ورفض إقامة الدولة الفلسطينية. في الوقت ذاته، انزوت القضية الفلسطينية مع انكفاء دول المنطقة على مشكلات الداخل بعد الثورات واتساع التطبيع الإسرائيلي عبر اتفاقات السلام الإبراهيمي دون مقابل حقيقي يتعلق بالحقوق الفلسطينية.

شكل هذا الصمت الصراعي خدعة لإسرائيل تعززت مع غطرسة القوة لدى مؤسساتها وأجهزتها الأمنية في قراءة قدرات الفلسطينيين على استمرار المقاومة للاحتلال.

بالتالي، جاء هجوم حماسالمفاجيء ليكسر الصمت ويشعل حرب غزة، لكون الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عميق الجذور، ولم يجد حتى الآن تسوية عادلة. فحتى، وإن مر هذا الصراع بفترات جمود، فعادة ما يتم كسرها، وليست مفارقة أن يشهد قطاع غزة خمسة حروب منذ عام 2008 وحتى الآن.

على الجانب الآخر، لعب الصمت كخطابات وسياسات علنية لكنها صامتة، بسبب ضعف أثرها في الواقع، دورًا في تمادي إسرائيل في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في حرب غزة، لاسيما مع تلقيها دعمًا أمريكيًا وأوروبيًا بذريعة حق الدفاع عن النفس.

صحيح أن قوى غربية، كالولايات المتحدة عدّلت مواقفها جزئيًا تحت ضغوط الرأي العام الداخلي، حيث باتت تناشد إسرائيل توخي الحذر مع المدنيين، وتمرير المساعدات الإنسانية، ووقف إمدادات بعض أنواع الأسلحة الهجومية.

مع ذلك، تبدو الاستجابات الأمريكية صامتةفعليًا، لكونها لم توقف عدوان إسرائيل أو تحجم تداعياته.

إذ دعمت واشنطن إسرائيل بالسلاح والمساعدات، كما لم ترق استجابتها إلى سياسات الفضح والمعاقبة التي أقدمت عليها إزاء روسيا بعد غزوها لأوكرانيا في فبراير 2022، بما جعل التساؤل مطروحًا حول من سيصدق سردية الغرب في أوكرانيا، بينما لا يأبه بالقتل الجماعي في غزة، على نحو بدا معه الصمت نوعًا من التواطؤ“.

يتبع

***

خالد حنفي علي ـ باحث مصري في مركز الإهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

___________________________

مقالات مشابهة