أسماء البنا
مسارات الانتفاضات العربية
بعد أكثر من عشر سنوات على اندلاع الانتفاضات العربية تبدو المنطقة العربية في أزمة؛ إذ فشلت معظم تجارب الانتقال الديمقراطي، وتحولت إما لمزيج من حروب أهلية وإقليمية كما حالة سوريا واليمن وليبيا والسودان، أو صعود أنظمة ديكتاتورية لا تقل في سلطويتها ولا انتهاكها لحقوق الإنسان عن الأنظمة السابقة كما في حالة مصر وتونس.
وهو ما انعكس بالقطع على إعادة تقييم المواقف والآراء تجاه الانتفاضات العربية، وتجاه مسألة الاستثناء الديمقراطي العربي.
وقد أنتجت الثورات العربية مسارات مختلفة، كما اتسمت مراحل التغيير بالتوتر والصراعات. فشهدت بعض الدول تحركات محدودة تم احتوائها بسرعة من جانب النخبة الحاكمة، مثلما حدث في دول الخليج مثل المملكة العربية السعودية والكويت، نظرًا لتوافر الموارد المالية والامتيازات التي تستخدمها الأنظمة لشراء ولاء المواطنين مقابل الإصلاحات والحقوق السياسية.
بينما تميزت الاحتجاجات بالقوة نسبيًا في البحرين، وتم قمعها بالقوة، وبتدخل من مجلس التعاون الخليجي. كما انتزعت بعض الدول فتيل الثورات مثل المغرب والجزائر والأردن عبر تنفيذ إصلاحات سياسية ودستورية.
في سوريا وليبيا واليمن كانت المآلات كارثية؛
ففي ليبيا ورثت النخب الثورية بلدًا دون مؤسسات أو دستور أو تجربة حزبية ومدنية، وفي وضع فراغ أمني إذ تسيطر المليشيات على المدن والأحياء.
أما سوريا، فقد شهدت مواجهة مسلحة بين النظام والمعارضة تضم فاعلين متعددين ذوي مصالح مختلفة ومتعارضة جعلت من سوريا ساحة للحروب بالوكالة.
وفي اليمن انتهت الانتفاضات إلى نزاعات مسلحة ومسار عشوائي تغذيه نزاعات قبلية وطائفية، وتسيطر فيه المليشيات المسلحة مع تدخلات إقليمية.
بينما شهدت الثورة في مصر ثورة مضادة، إذ استغلت المؤسسة العسكرية سوء إدارة الإخوان للوضع السياسي والاجتماعي واستحوذت على السلطة وأنهت الانتقال الديمقراطي.
وفي تونس، نجح مسار الانتقال الديمقراطي في البداية متخطيًا اختلافات النخب والقوى السياسية، وقد ساعد عدد من العوامل على ذلك مثل دور الاتحاد العام التونسي للشغل، والمصالحة بين التيارات الإسلامية والعلمانية، وعدم تدخل المؤسسة العسكرية التونسية في العملية السياسية، الأمر الذي أسفر عن تأسيس توافق وتداول سلمي للسلطة.
إلا أنه ومع مجيء قيس سعيد إلى السلطة، شهد المسار الديمقراطي تعثرًا عن طريق إصدار عدة مراسيم تركز السلطة في يد الرئيس، وتهمش المعارضة والبرلمان وجميع مؤسسات الدولة.
كذا واجهت الاحتجاجات في العراق ولبنان قمع وعنف من السلطة ولم تنجح في تحقيق مطالب حقيقية، إذ شهدت الدولتان أزمات سياسية استمرت لعام على الأقل. فيما يشهد السودان صراعًا مسلحًا على السلطة.
على مدار الفترة بين عامي 2010 و2013، عايشت الثورات العربية مرحلة من التخبط السياسي، كالفراغ الأمني والصعوبات الاقتصادية والاحتجاجات الاجتماعية على مستوى مصر وليبيا –وإلى حد ما اليمن.
وبدأت تلك المرحلة في السودان في 2018، وفي العراق ولبنان في 2019 بحثًا عن نموذج سياسي حقيقي وفعال. ولكن فشلت المفاوضات بين القوى السياسية المتصارعة في الاتفاق على قواعد اللعبة السياسية الديمقراطية؛
فبعد 2014 صعدت النخب العسكرية إلى الحكم في مصر وليبيا، وتبلورت بشكل أكثر تنظيمًا قوى الثورة المضادة والدولة العميقة. وأفضل توصيف لهذه المرحلة أنها مرحلة خفوت قوى الثورة لحساب صعود مبدأ الحرب الأهلية، بوصفه التطور الحتمي، كما جرى في ليبيا واليمن أو التخويف منها كتبرير، كما في مصر.
بعد عام 2017، تحول ما يسمى إعلاميًا «الربيع العربي» إلى خريف كامل، وبدت الحرب الأهلية وعودة السلطوية خيارات للثورات العربية بدلًا من الانتقال الديمقراطي. إذ سيطرت السلطوية على العملية السياسية، وظهرت المليشيات خارج نطاق الدولة مثل القاعدة والحوثيين في اليمن، بالإضافة إلى التحول كساحة للصراع الدولي والإقليمي.
ومع تجدد الاحتجاجات في عدد من الدول في 2018، وجد السودان نفسه في صراع مدني عسكري على السلطة، تحول في النهاية إلى صراع داخلي مسلح على السلطة. بينما خفتت الاحتجاجات في العراق ولبنان، وفشلت في تحقيق مكاسب حقيقية.
هذه المسارات المختلفة التي اتخذتها الأنظمة العربية نسجتها العوامل الداخلية والخارجية لكل دولة، باختلاف السياقات والتفاعلات بين العناصر المختلفة في كل نظام، واختلاف طبيعة السلطة والعوامل الاجتماعية والاقتصادية. رغم ذلك يمكن استنتاج عدة ملاحظات عامة:
أولًا إن إسقاط رأس النظام لا يعني الوصول إلى الديمقراطية؛ فالعديد من الدول أطاحت برأس السلطة ثم تهاوت إلى حرب أهلية مثل ليبيا أو شهدت ثورة مضادة مثل مصر، بما يعني أن الديمقراطية ليست في غياب الاستبداد، وإنما تتمثل في إقامة مؤسسات سياسية ومجتمع مدني قوي وإجراءات ديمقراطية.
ثانيًا دورية الانتخابات مع غياب المحتوى الديمقراطي والتوافق الحقيقي يجعل من الصعب الحفاظ على الديمقراطية وضمان استمرارها، فالظروف التي تحقق الانتقال الديمقراطي تختلف عن الظروف التي تضمن استقراره، مثلما حدث في تونس.
ثالثًا لا يمكن تجاهل دور الفاعلين الخارجيين، إذ مارست القوى الدولية دورًا هامًا في عرقلة الديمقراطية في المنطقة منذ عقود، وتستمر في لعب هذا الدور من أجل حماية مصالحها أولًا وأخيرًا.
رابعًا لا يمكن تجاهل دور القيادة والمشروع السياسي وتأثيرهما على فعالية الاحتجاجات وتحقيق المطالب، خاصة في المجتمعات ذات الطبيعة الطائفية مثل العراق ولبنان.
الارتداد السلطوي ووضع الديمقراطية وحقوق الإنسان
بعد مرور أكثر من عشر سنوات على الانتفاضات العربية وسقوط رموز السلطوية في العديد من الدول العربية، لازالت تطورات المشهد السياسي العربي لا تنبئ بتحولات كبيرة في البنية المؤسسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية نحو الانتقال الديمقراطي.
إذ شهدت عمليات الانتقال الديمقراطي في المنطقة تعثرًا أدى لإعادة إنتاج أنظمة سلطوية هجينة. وبرغم تمكن الحراك الشعبي من إسقاط رؤوس الأنظمة السلطوية؛ إلا أنها عجزت عن إسقاط الأنظمة السلطوية.
وقد مثّلت إشكالية التخلص من تلك البني السلطوية التقليدية التي خلفتها الأنظمة السياسية السابقة أهم تحديات ما بعد الانتفاضات العربية.
لقد أثبتت السلطوية في المنطقة العربية مرونتها الفائقة في التعامل مع الانتفاضات في بلدانها، وإعادة بناء نفسها بوسائل شتى؛ لإبقاء استحواذها على السلطة وسيطرتها على عملية صنع القرار.
ولعل هذه النتيجة متوقعة تمامًا حين منعت هذه السلطوية إجراء أي تطوير جاد لمؤسسات الدولة عدا المؤسسة الأمنية، وبذلك ضمنت عدم إمكانية ملء الفراغ الذي قد تولده أي احتجاجات شعبية سوى بالمؤسسة الوحيدة القادرة على ذلك، أي المؤسسة الأمنية. يطرح ذلك إشكالية مرونة الأنظمة التسلطية في المنطقة، والتي تتميز بالهشاشة والضعف، ولكنها تمتلك، في الوقت نفسه، قدرة فائقة على القمع.
وقد اتصفت النظم العربية الهجينة، تاريخيًا وحديثًا، بعدة صفات رئيسية تضمنت تعزيز الجهاز الأمني، والاعتماد على القمع في تحقيق استقرار واستمرار النظام، وتبني تعديلات دستورية تسمح بالتعددية الحزبية والانتخابية والتداول السلمي للسلطة والتنافسية الشكلية، وتدخل الدولة في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب منح دور أكبر للمؤسسة العسكرية، وسيطرة الدولة من خلال نخب مختارة على الاقتصاد ومنع المواطنين من الحصول على الفرص، وأخيرًا إتاحة دور محدود ومقيد للمجتمع المدني وقمع المعارضة.
من الجدير بالذكر أن تلك السمات تم التأكيد عليها وتعزيزها بعد تعثر الانتفاضات العربية وعودة السلطوية إلى المنطقة، بل يمكن القول أن الأنظمة العربية انتقلت لمرحلة جديدة تتجاوز سماتها وأدواتها القديمة. ولعل أبرز التغيرات الواضحة يتمثل في إغلاق المساحات التي كانت متاحة سابقًا للمعارضة السياسية، وتضييق سقف الحريات الإعلامية التي كانت متاحة من قبل، وتعزيز القبضة الحديدية على القوى السياسية والمجتمع المدني، وعدم الاكتراث بالأجندات الدولية وبيانات المنظمات الحقوقية والإنسانية وتصنيفاتها، كما كانت الحال سابقًا.
وبالتالي لم يؤد فشل الانتفاضات العربية للعودة إلى السلطوية القديمة؛ وإنما أنتج مجموعة من الأنظمة الأكثر سلطوية وصرامة، ومجموعة من الدول الفاشلة وغير المستقرة، تسودها حالة من الصراعات والحروب.
عوامل تعثر الانتفاضات العربية
واجهت الدول العربية التي شهدت احتجاجات في موجتي الانتفاضات العربية عدة تحديات أثرت على التحول الديمقراطي وأدت لفشل الانتفاضات في تحقيق مطالبها وفي تحقيق الفعالية، الأمر الذي يمكن إرجاعه لمجموعة من الاعتبارات والعوامل:
الدولة العميقة:
لقد مارست بقايا الأنظمة التسلطية دورًا رئيسيًا في عرقلة التحول الديمقراطي؛ فقد اصطدمت الانتفاضات العربية بهياكل استبدادية قوية وعميقة مصرة في الدفاع عن امتيازاتها.
وفي الوقت نفسه لم تشهد أيًا من دول المنطقة على مدى تاريخها تجربة ديمقراطية حقيقية، بل خضعت لحكام سلطويين رسخوا هياكل ومقومات التسلط والاستبداد عبر آليات سياسية وقانونية وأمنية واقتصادية وثقافية ودينية.
على مر العقود، أنتجت تلك النظم سياسات مشوهة كرّست البنى والهياكل التسلطية.
فقد استخدمت آليات زادت من ترسيخ هياكل التسلط وبني الفساد عن طريق تأسيس الكثير من الأجهزة الأمنية، وتأمين قدرة السلطة على الاستمرار، وإحكام السيطرة على منظمات وقوى المعارضة والمجتمع المدني عبر إجراءات وقوانين إدارية وأمنية، بما يجعل الحاكم هو اللاعب الرئيسي والمتحكم في خيوط اللعبة السياسية.
كما وظفت تلك الأنظمة أسلوب المنح والمزايا الاقتصادية والسياسية لشراء الولاء السياسي، واحتوت قطاعات واسعة من المثقفين اعتمادًا على وسائل مختلفة.
اقترن كل ذلك بشبكات ممتدة من الفساد والإفساد ووجود إعلام رسمي تمثلت مهمته في الإشادة بالقائد وحكمته وإنجازاته، كما وظفت تلك النظم الخطر الإسلامي في علاقتها مع القوى الغربية.
من خلال تلك الأساليب أسست النظم العربية الدولة البوليسية، والتي تمكنت من العصف بكل الخصوم وتحقيق نوع من الاستقرار السياسي السلطوي. بناء على ما سبق فإن التعامل مع التاريخ السلطوي المتمثل في هياكل وبني السلطوية والفساد التي تكرست على مدار عقود أصبح يشكل أحد التحديات الرئيسية في مرحلة ما بعد الثورات والإطاحة برؤوس النظام.
معضلة بناء الدولة مقابل تأسيس الديمقراطية:
لقد مثلت معضلة ضعف الدولة وانهيارها تحدي أساسي لعملية التحول الديمقراطي في المنطقة العربية. ويمكن القول أن فرص تأسيس نظام ديمقراطي تتزايد في ظل وجود دولة وطنية راسخة تحظى بالشرعية وتفرض سيطرتها على إقليمها، من خلال احتكار حق الاستخدام المشروع للقوة.
وقد تجلى ذلك في كلا من ليبيا واليمن، إذ تشهد الدولة في كلا منهما انهيارًا ينعكس على فشلها في السيطرة على مفاصلها ومواردها، بينما اتسم الجيش والمؤسسة الأمنية بالضعف، مما أفرز حالة من الفوضى والاضطراب.
ففي ليبيا وبسبب السياسات التي انتهجها نظام القذافي على مدار عقود، بدأت أجهزة الدولة ومؤسساتها في التفكك حتى قبل انهيار النظام، وعجزت السلطة الحاكمة متمثلة في المؤسسات الانتقالية عن فرض سيطرتها على إقليم الدولة، خاصة مع كثرة الانقسامات.
فيما واجهت اليمن، بعد انتهاء مبادرة الحوار الوطني مطلع 2014، تحديًا أكبر يتمثل في مدى قدرة السلطة على تنفيذ بنود الوثيقة، خاصةً في ظل ما يشهده اليمن من تصاعد كبير في حدة الصراعات الداخلية المسلحة.
أما الدولة في العراق ولبنان فتسيطر عليها الانقسامات الطائفية التي يتم توظيفها والتلاعب بها لتحقيق مكاسب سياسية، مما يعرقل أي محاولة حقيقية للإصلاح والتغيير.
بينما كان التحدي الأكبر في كل من ليبيا واليمن يتمثل في عملية بناء الدولة الوطنية ذاتها على أسس جديدة؛ فإن الدولة في كل من مصر وتونس، رغم قدمها ورسوخها، تعاني من مشكلة ضعف أجهزتها وعجزها عن ممارسة وظائفها بفاعلية وكفاءة، نظرًا لترهلها وتضخمها وضعفها.
وقد زادت تلك الهشاشة بعد سقوط رؤوس النظام، ونظرًا لذلك تشكل عملية بناء الدولة وإصلاحها أحد متطلبات التحول الديمقراطي.
…
يتبع
***
أسماء البنا ـ باحثة في مؤسسة حرية الفكر والتعبير، وباحثة دكتوراه في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة.
________________
رواق عربي