د. خالد حنفي علي

ثانيًا: تخفيف حدة الصراعات

يصبح للصمت بعد تواصلي وظيفي في تخفيف حدة الصراع، عبر بعث رسائل ضمنية من طرف متنازع لآخر أو من خلال الأطراف الخارجية بغرض عدم تفاقم آثاره.

تظهر في هذا السياق أنماط عديدة منها، لجوء بعض المنظمات الإنسانية في مناطق الصراعات إلى السكوت عن إدانة وفضح سلوكيات المتنازعين علنًابغية السماح لها بتوزيع مواد الاغاثة والمساعدات في مناطق الصراعات.

تتبنى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، مثلاً، خيار السرية المطلقة لتعزيز دورها الإنساني في مناطق الصراعات، حيث ترى أنه يمكنها حماية حقوق الضحايا، عبر مبدأ التواصل مع السلطات المعنية لتحسين حقوق الإنسان، دون بيانات إدانة علنية تثير حفيظتها من أجل استمرار تدفق مساعدات المنظمة والحفاظ على أمن العاملين فيها.

انتهجت أيضًا منظمات إنسانية في ميانمار تلك الممارسات الصامتة في التعامل مع الأزمة الإنسانية في هذا البلد ليس فقط من أجل تسهيل الإغاثة لمتضرري الصراع، وإنما للمشاركة في تحفيز السلام المحلي بين العرقيات المتنازعة.

إلا أن منظمات إنسانية أخرى ترفض ذلك الاتجاه، فمنظمة أطباء بلا حدود تقر بمبدأ الشهادة العلانية أمام الرأي العام حول أي انتهاكات حقوقية للأطراف المتنازعة، حيث ترى الصمت عائقًا أمام الحماية الفعالة لضحايا النزاعات، مما عرّضها لأزمات عديدة مع أطراف النزاع في مناطق الصراعات، بسبب فضح انتهاكاتهم الحقوقية.

برز هذا الأمر في حرب غزة، حيث تعرّضت بعض المنظمات الحقوقية في الشرق الأوسط التي أدانت جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين ودعت لمعاقبتها إلى قطع تمويلها الأوروبي، إذ راجعت ألمانيا، التي ساندت إسرائيل في الحرب، المشاريع الممولة في المنطقة، بما يتضمن إعادة تقييم المواقف السياسية إزاء هجوم 7 أكتوبر.

من جانب آخر، قد تلعب سياسات الصمت دورًا في تخفيف حدة الصراعات، عبر آلية الامتناع عن التصويت.

تجلى ذلك في امتناع الولايات المتحدة في مارس الماضي عن استخدام الفيتو في مجلس الأمن، عندما أرادت تمرير قرار وقف إطلاق النار والوصول غير المشروط للمساعدات والإفراج عن الرهائن في حرب غزة، على الرغم من أنها عرقلت القرار من قبل مرات عديدة.

بررت واشنطن هذا الامتناع حينها بأن القرار تجاهل إدانة حماس، لكن إقدامها على الصمت التصويتي عكس في معناه رسائل ضمنية بعضها لحليفتها إسرائيل للحد من تداعيات حرب غزة، والآخر لإصلاح صورتها المتدهورة عالميًا، بفعل دعمها لإسرائيل في تلك الحرب، ناهيك عن استيعاب ضغوط الحراك الاحتجاجي الطلابي في الجامعات الأمريكية الذي يطالب بوقف الحرب، لاسيما مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 5 نوفمبر القادم.

قد يبرز أيضًا نمط من الصمت المتعمد أو المدروس للحد من تفاقم أزمات داخلية في وقت الصراعات، كما الصمت التكتيكي، أي عدم اتخاذ ردود فعل سريعة في المواقف الصراعية بغية استكشاف المواقف وتقديرها، على نحو اشتهرت به المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل التي كانت تلزم الصمت لفترة قبل إعلان مواقفها في الأزمات الداخلية والخارجية.

أما الصمت الاستراتيجي، أي التعتيم على النوايا السياسية، فله أغراض أوسع، منها: جمع معلومات أكثر عن الخصوم، الاستعداد للاستجابة عبر مراقبة التهديد، بث الخوف لدى الطرف الآخر بما قد يردعه عن تصعيد الأزمة أو الصراع إلى مستويات خطرة.

هنا، تلجأ إسرائيل مثلاً إلى الصمت الاستراتيجي في مسألة امتلاكها لأسلحة نووية، برغم أن هنالك اتفاقًا عامًا في الشرق الأوسط والعالم على وجود تلك الأسلحة لديها، بل إن أحد وزرائها المتطرفين، وهو وزير التراث اليميني أميخاي إلياهو، دعا، في بداية نوفمبر 2023، إلى ضرب غزة بالسلاح النووي.

إلا أن عدم الإعلان الإسرائيلي يرجع إلى سياسة صمت متفق عليها مع واشنطن لتجنب الضغوط الإقليمية والدولية على القوى النووية، ناهيك عن ردع دول المنطقة عن شن حرب وجودية كبرى ضدها أو حتى على الأقل جعل الصراعات الإقليمية في نطاقات وأسقف محسوبة نسبيًا، كما يجري، مثلاً، في الصراع مع إيران.

بعد الهجمات المتبادلة المباشرة بين إسرائيل وإيران في أبريل الماضي (قصف إسرائيل قنصلية طهران في سوريا، ثم رد إيران بهجوم مباشر على تل أبيب، لتعود الأخيرة لمهاجمة الداخل الإيراني قرب المنشآت النووية في أصفهان) توقف الطرفان المتنازعان، وفضلا بشكل مؤقتخيار الصمت، خشية انزلاق التصعيد المتبادل إلى حرب إقليمية كبرى بينهما.

عبرت لحظة الصمت تلك في منحنى الصراع بين البلدين عن رسالة تواصل ضمني بأن قدرة كل طرف على التهديد المباشر للآخر قد وصلت، بما أوقف التصعيد عن حد معين.

ثالثًا: التسوية وبناء السلام

قد يصبح الصمت محل توافق مشترك بين المتنازعين عبر نمط الإسكات العمدي لقضايا قد تعرقل التسويات السياسية في الأزمات أو الصراعات، كما الاتفاق على العفو الشامل عن انتهاكات الحروب من أجل دفع الانتقال الديمقراطي في الدول الاستبدادية (تضمن ميثاق الصمت في أسبانيا في عام 1977 بعد وفاة فرانكو بعامين عفوًا عن جرائم فرقاء الحرب الأهلية في الثلاثينيات، وما تلاها خلال حكم فرانكو، أو تسوية الصراع الأهلي (اتفاق السلام في عام 1992 لتسوية الصراع الأهلي في موزمبيق، حيث صدر حينها عفو عن الجرائم المرتكبة من أطراف الصراع (حزبا فريليمو ورينامو) بين عامي 1979 و1992.

على الرغم من الانتقادات الحقوقية التي طالت هذا النمط من الصمت كونه يطمس الحقيقة عن جرائم الماضي، على نحو سيتم توضيح إشكالياته لاحقًا، فإن منطقه البراجماتي العام استند على أن تسوية الصراع في مرحلة ما عبر غض الطرف عن انتهاكات المتنازعين قد يوقف المزيد من تدهور الوضع الحقوقي والإنساني للمجتمعات المتأثرة باستمرار الصراعات، ويسمح بإعادة بناء الدول التي مزقتها الصراعات.

من جانب آخر، تمدد خيار الصمت إلى مرحلة بناء السلام في الدول التي خرجت لتوها من الصراعات العنيفة والمتجذرة في البنى الاجتماعية.

فبينما لجأت تجارب كجنوب أفريقيا ورواندا وغيرهما إلى كسر الصمت ومعرفة الحقيقة كمدخل للاستشفاء الاجتماعي من العنف، عبر لجان الحقيقة والمصالحة كإحدى أدوات العدالة الانتقالية، فقد تم اللجوء إلى سياسات الصمت بغرض بناء الحد الأدنى من التعايش الاجتماعي في الحياة اليومية.

تفرق بعض الدراسات في هذا السياق بين نمطي الصمت الرسمي، وغير الرسمي في مرحلة ما بعد الصراع. فالصمت الرسمي، كسردية تتبناها الدولة إزاء انتهاكات وجروح الماضي قد يثير معارضة اجتماعية واسعة.

ففي كولومبيا، تعرّض اتفاق السلام بين الحكومة وأكبر الحركات المسلحة المتمردة فاركفي عام 2016 إلى الرفض في استفتاء شعبي بسبب التساهل العقابي مع الجناة، ثم تم تعديله وإقراره من البرلمان.

من ثم، بدت ذاكرة المجتمع رافضة للصمت الرسمي على جروح الماضي، فالعنف حصد أكثر من ربع مليون شخص في هذا البلد، لذا جاءت لجان تقصي الحقائق، كأحد نواتج الاتفاق، لكسر الصمت.

أما الصمت غير الرسمي عن عنف الماضي، فقد يكون خيارًا اجتماعيًا مقبولاً لبناء الثقة والعلاقات الطبيعية بين الأفراد والجماعات في الحياة اليومية، من خلال تجنب الموضوعات المثيرة للجدل حول الماضي، وبالتالي تعزيز السلام اليومي كخطابات وممارسات يومية بهدف إضفاء الإنسانية على الآخر، وبعث رسائل الود له. برز هذا النوع من الصمت المؤدي للسلام اليومي في حالات صراعية، كسيراليون وشمال أوغندا أو ميانمار.

ربطت أيضًا الدراسات النسوية بين الصمت الجندري (السكوت على جرائم العنف الجنسي والتمييز ضد المرأة) وبناء السلام، حيث ميزت بين صمت مُعطِّل للسلام وآخر مُمكِّن له.

فالصمت المُعطِّل للسلام يتجاهل معاناة النساء ولا يعالج قضاياهن بعد توقف الصراع، على غرار إهمال لجنة الحقيقة والمصالحة لتجارب النساء خلال نظام الفصل العنصري أو الصمت على جرائم الاغتصاب الجنسي في حرب البوسنة، والتي خلّفت ما بين 20 و50 ألف ضحية اغتصاب لم يعالج منهن سوى قضايا قليلة.

في المقابل، قد يقود الصمت إلى تمكين السلام، عندما يصبح خيارًا للتكيف الاجتماعي للنساء بعد الحرب، حتى في الدول التي عرفت كسرًا رسميًا للصمت، على غرار تجارب النساء في قرى المصالحة في رواندا، التي تم إنشائها بعد الإبادة الجماعية في عام 1994، حيث بدا تجنب التحدث عن عنف الماضي في الحياة اليومية وسيلة للنسيان الاجتماعي لفظائع الحرب، والحصول على منزل وعمل يؤمن كرامة النساء.

يتبع

***

خالد حنفي علي ـ باحث مصري في مركز الإهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

___________________

مقالات مشابهة