أسماء البنا

دور المؤسسة العسكرية:

شكل الدور السياسي للمؤسسة العسكرية، والعلاقات المدنية العسكرية، والدور العسكري في إدارة عملية التحول الديمقراطي في المنطقة العربية بعد الانتفاضات العربية تحديًا كبيرًا.

فنظرًا للتجارب المختلفة في الدول العربية نجد تباينًا في دور المؤسسة العسكرية وتفاعلها مع عملية التحول الديمقراطي، ما أسفر عن نتائج مختلفة. وتناقش بعض الأدبيات أنه في حالات التحول الديمقراطي الناجحة التي كان للجيش دور فيها، فقد اقتصر هذا الدور على تمهيد المشهد السياسي في مرحلة الانتقال لإجراء انتخابات حقيقية، أو تسليم السلطة للمدنيين لإدارة المرحلة الانتقالية، كما لم يسيس السياسيون الجيش لا بالتفاهم معه، ولا بالاستقواء به ودعوته إلى الانقلاب على المؤسسات المنتخبة

ومن خلال الاحتجاجات العربية، يمكن رؤية كيف أن دور المؤسسة العسكرية مؤثر ومحوري في نجاح التحول الديمقراطي من عدمه.

ففي تونس أدى رفض الجيش التدخل لقمع المتظاهرين، أو التدخل في العملية السياسية فيما بعد، إلى نجاح تونس على الأقل في الخطوات الأولى نحو التحول الديمقراطي.

بينما أدى انقسام الجيش في اليمن لإدخال البلاد في حرب أهلية تسببت في فشل الدولة.

في المقابل تدخل الجيش في سوريا لقمع المتظاهرين، ما أدى إلى تحولها لساحة اقتتال محلي وإقليمي ودولي.

في مصر استغلت المؤسسة العسكرية حالة الاستقطاب بين القوى السياسية، وعدم وعي النخب السياسية، واستولت على السلطة وأسست لسلطوية جديدة وعودة للدولة العميقة

بينما برز في السودان صراع على السلطة بين المدنيين والعسكريين بعد احتجاجات 2018 وإقصاء البشير عن الحكم. وفي نهاية الأمر، نجحت المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى كيانات عسكرية أخرى، في السيطرة على مفاصل الحكم، وأدخلت البلاد في حرب داخلية للتنافس على السلطة أجهضت محاولات وفرص التحول الديمقراطي.

غياب القيادة ومشروع بناء الدولة

بطبيعة الحال لا يمكن إغفال دور النخب السياسية المعارضة في كشف فساد الحكام وتسلطهم، الذي ساعدت على فضحه كذلك ثورة المعلومات ولا سيما شبكات التواصل الاجتماعي.

لكن أمام تلاحق التطورات، لا سيما عند سقوط رأس النظام، بدت هذه النخب عاجزة عن قيادة المرحلة وملئ الفراغ، ببساطة لأنها لم تكن مهيأة، كما أنها ظلت، بشكل أو بآخر، جزء من المشهد طيلة هيمنة النظام البائد، دون القدرة على تشكيل معارضة حقيقية لسياساته.

حتى أن جماعة الإخوان المسلمين كحركة إصلاحية، تمثل إحدى أكبر القوى المؤثرة في الساحة المصرية مثلا، ربما امتلكت خطة للتعبئة والحشد الجماهيري، لكنها افتقدت إلى مشروع بناء الدولة.

والأمر نفسه يقال بالنسبة للقوى العلمانية واليسارية. هذا العجز السياسي لنخب ما بعد سقوط الأنظمة تمثل بشكل ملموس في غياب مشروع للثورة، وعلى العكس من ذلك بزغت المشاريع الحزبية والفئوية والأجندات المختلفة لما بعد السقوط المدوي.

ولم تكن قراءة المرحلة على المستوى المطلوب، كما لم يكن للثورة قيادة، أو برنامج ومشروع موحد. فضلًا عن تجاهل القضايا الملحة المتعلقة بإدارة المرحلة الانتقالية ودور القوى السياسية المختلفة ودور المؤسسة العسكرية فيها.

ضعف الأحزاب والمجتمع المدني:

يعد ضعف وهشاشة وتشرذم القوى والأحزاب السياسية المدنية من بين العوامل الرئيسية التي تفسر حالة الفراغ السياسي في بعض الدول، مما أسفر عن صعود الإسلام السياسي، كما حدث في مصر، إلى جانب عدم التوافق على القضايا المركزية، والذي عطل بدوره العملية السياسية مثلما حدث في العراق ولبنان.

فيما فشلت الأحزاب في مرحلة ما بعد الثورات في طرح نفسها كبدائل سياسية قوية. يمكن إرجاع ذلك لعدة عوامل، منها تشرذم الأحزاب وضعفها، إلى جانب عجزها عن تشكيل تحالفات وائتلافات سياسية قوية، وضعف قواعدها الاجتماعية والتي تتركز في دوائر محدودة في العواصم والمدن الكبرى، نتيجة نخبوية الخطابات والأيدلوجيا.

فيما يتعلق بالمجتمع المدني، تؤكد بعض أدبيات التحول الديمقراطي على دوره البارز في دعم عمليات التحول والترسيخ الديمقراطي. في المقابل، عانت الدول العربية من مشكلة ضعف قوى ومنظمات المجتمع المدني، على الرغم من وجود الجمعيات الأهلية والمنظمات النقابية والحقوقية والحركات الاجتماعية.

ورغم أن بعضها أدى أدوارًا مهمة أثناء الاحتجاجات، إلا أنها عجزت عن ممارسة أي دور بارز فيما بعد.

ففي اليمن، برغم تزايد عدد منظمات المجتمع المدني بعد الانتفاضة، إلا أن دورها في التحول الديمقراطي كان هامشيًا ومحدودًا، بسبب اضطراب المسار الانتقالي والانقسامات السياسية والقبلية والطائفية.

بينما أعاقت سياسات القذافي في ليبيا ظهور أو تشكل منظمات مجتمع مدني حقيقية. ورغم تزايد أعداد التنظيمات المدنية بعد القذافي، إلا أن دورها ظل محدودًا بسبب حداثة النشأة وتفكك مؤسسات الدولة.

على العكس، مارس المجتمع المدني في تونس دورًا مهمًا في عملية التحول الديمقراطي؛ فقد تميز دوره بالحضور القوي والفعال والمشاركة في تدعيم التوافق.

العوامل الخارجية:

تاريخيًا اختلف دور الديمقراطيات الغربية في المنطقة العربية في دعم الديمقراطية، عن دورها في جنوب أوروبا وشرقها يعد سقوط الاتحاد السوفيتي. ولقد عانت المنطقة من التداعيات السلبية للعوامل الخارجية على عملية التحول الديمقراطي على مدار عقود؛ إذ دعمت القوى الدولية الأنظمة السلطوية في المنطقة لضمان مصالحها وضمان تدفق النفط.

وقد ظهر جليا دور القوى الإقليمية والدولية في إدارة انتفاضات 2011، وتوجيه مسار عمليات الانتقال نحو إعادة إنتاج الأنظمة القديمة المطلقة والتسلطية أو خلط الأوراق في الداخل.

ففي ليبيا لم يكن من الممكن إسقاط النظام دون مساعدة خارجية، لكن البلاد تحولت سريعًا إلى ساحة لنفوذ قوى إقليمية ودولية متعددة.

وفي اليمن رعت أطراف إقليمية حوارًا وطنيًا داخليًا من خلال المبادرة الخليجية التي انتهت إلى بقاء الحزب الحاكم القديم في المشهد السياسي، لينفذ الحوثيين انقلابًا على نتائج الحوار أدى لإدخال البلاد في حرب طاحنة.

وفي مصر لم تكن الثورة المضادة لتنجح لولا الدعم السخي من الإمارات والسعودية.

أما سوريا، فتحولت ثورتها إلى حرب أهلية بسبب تدخل أطراف إقليمية ودولية تدخلًا عسكريًا مباشرًا. وفي البحرين أُجهض الحراك بتدخل سعودي مباشر، إذ اعتبر الحراك امتدادًا للنفوذ الإيراني.

ولعل النجاح الأولي للثورة التونسية يرتبط ببعد البلاد عن تنافسات الدول الكبرى نسبيًا، رغم محاولة قوى إقليمية التأثير على المشهد السياسي.

إلى جانب هذه التحديات، واجه التحول الديمقراطي في المنطقة تحديات اقتصادية هددت استقرار الدولة وأثرت على عملية التحول الديمقراطي.

فقد عانت الدول من هشاشة الاقتصاد وعجز الحكومات عن تلبية مطالب الشعوب. وبالتالي ارتبط التحول الديمقراطي في المنطقة بمجموعة من المتغيرات والتحديات البنيوية والخارجية، والتي أدت إلى فشل الدول في إنجاح عملية التحول الديمقراطي، وبقاء النخب القديمة وتوحشها، واستمرار الظروف نفسها التي أنتجت الثورات.

وتشهد المنطقة انغلاقًا سياسيًا من أبرز مظاهره إقصاء المعارضة والنخب الجديدة، وتقييد المجال العام والفضاء الإعلامي، وانتهاك حقوق الإنسان، بالإضافة لتعقد الوضع الاقتصادي.

يتبع

***

أسماء البنا ـ باحثة في مؤسسة حرية الفكر والتعبير، وباحثة دكتوراه في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة.

________________

مقالات مشابهة