د. خالد حنفي علي
إشكاليات الصمت من غياب العدالة إلى مأزق الشرعية
مع تعدد أشكال وأدوار سياسات الصمت والجدال حولها في أوقات ومناطق الصراعات، برزت إشكاليات عديدة يمكن طرح بعضها، على سبيل المثال لا الحصر.
فمن جهة، يفرض خيار الصمت في تسوية الصراعات أو تسهيل الانتقال الديمقراطي عبر العفو عن جرائم الماضي مأزقًا حول غياب العدالة ونشر ثقافة الإفلات من العقاب وإهدار حق المجتمعات في معرفة الحقيقة، بما قد يجعل هذا الخيار “تسوية ظرفية“، أي قد يتعرض للكسر في المستقبل، عندما تتغير موازين القوى أو تنشأ أجيال جديدة تدفع نحو المحاسبة على ما جرى في الماضي، خاصة أن الذاكرة الجماعية حول جرائم الصراعات لا يطويها النسيان، وقد تصبح عائقًا أمام بناء علاقات سلمية.
بعد ثلاثة عقود من ميثاق الصمت الأسباني، تم إقرار قانون الذاكرة التاريخية في عام 2007، والذي نص على إدانة حكم فرانكو، وتكريم ضحاياه وازالة رموزه، إثر ضغوطات مستمرة من منظمات المجتمع المدني.
أما في موزمبيق، فقد أدى الصمت عن جرائم الحرب الأهلية إلى أزمات بين خصمي تلك الحرب، حيث تنازعا حول الذاكرة الجماعية للبلاد.
فمع سيطرة “فريليمو” على الدولة ومؤسساتها بعد اتفاق السلام، من خلال الانتخابات في عقد التسعينيات، احتفظ بالسيطرة على السردية الرسمية إزاء الحرب في المدارس والكتب الرسمية، والتي تتضمن إدانة لـ“رينامو” كحركة تمرد مدفوعة من الخارج، وهو ما اعتبرته الأخيرة تلاعبًا تاريخيًا يخفي جرائم الجيش الرسمي خلال الحرب الأهلية حينها.
من جهة ثانية، قد يصبح خيار الصمت انتقائيًا وليس شاملاً في مناطق الصراعات، أي يتم غض الطرف عن جرائم، وفضح أخرى نتاجًا لطبيعة توازنات القوى ما بعد توقف العنف.
فعلى الرغم من كسر الصمت في رواندا عبر لجان الحقيقة والمصالحة، وإنشاء محكمة جنائية دولية خاصة لمعاقبة المتورطين في جرائم الإبادة الجماعية في عام 1994، إلا أنه في المقابل تم الصمت الرسمي على مقتل الآلاف من الهوتو علي يد الجبهة الوطنية الرواندية، واستبعادهم من سردية الإبادة الجماعية التي طالت التوتسي.
بالتالي مال قانون الإبادة الجماعية في رواندا إلى الحفاظ على رواية أن التوتسي هم الضحايا الوحيدون.
بالمثل، فإن كسر الصمت في تجارب لجان الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا أو هيئة الانصاف والمصالحة في المغرب لعب دورًا في التقدم نحو الانتقال الديمقراطي في الأولى، والحقوقي في الثانية، لكنه لم يسفر عن عقاب شامل لمرتكبي الانتهاكات في الماضي.
من جهة ثالثة، ثمة إشكالية تتعلق بتسييس خيار الصمت في مجال حقوق الإنسان، أي أنه قد يرتبط بطبيعة العلاقات الجيوسياسية التعاونية أم التنافسية، فبينما تغض الولايات المتحدة الطرف عن حليفتها إسرائيل، حتى أنها رفضت وصف ما يجري في حرب غزة بجرائم إبادة جماعية، فإنها لا تتواني عن انتقاد منافستها الصين في ملف حقوق الإيجور المسلمين، وتستخدمه ضدها كورقة ضغط جيوسياسي في سياق التنافس الدولي بينهما.
كذلك، تكمن إحدى الأزمات العالقة في العلاقات بين فرنسا والجزائر في رفض الأولى تقديم اعتذار عن الجرائم التي ارتكبتها خلال المرحلة الاستعمارية بحق الجزائريين.
تخشى باريس من أن كسر الصمت الرسمي حول تلك الجرائم قد يفتح الباب أمام ملاحقات قضائية وتعويضات لن تقتصر على الجزائر، وإنما تمتد إلى الدول الأفريقية التي خضعت للاستعمار الفرنسي.
من جهة رابعة، فإن عائد كسر الصمت على المستويين الإنساني والعملي في بعض حالات الصراع قد يكون أكبر من كلفة الالتزام به.
ففي حرب غزة، فاقم الصمت من الضحايا الفلسطينيين، بينما أدى كسره إلى تحويل صورة إسرائيل إلى دولة معزولة ومنبوذة في أوساط الرأي العام العالمي، حتى لو لم يوقف ذلك عدوانها على الفلسطينيين بفعل اختلالات القوة الإقليمية والدولية.
من أبرز مظاهر كسر الصمت هنا: الحراك الاحتجاجي في الجامعات الغربية، رفع جنوب أفريقيا دعوى قضائية ضد إسرائيل تتهمها بارتكاب جرائم ابادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية، ثم إصدار الأخيرة أمرًا بوقف الهجوم الأخير على رفح، طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزيره دفاعه يوآف جالانت، حملات المقاطعة الشعبية ضد منتجات الشركات الغربية الداعمة لإسرائيل.
حفّز كل هذا الزخم العالمي، برغم أنه بدا رمزيًا ومعنويًا، على دعم الحقوق الفلسطينية عبر تأييد الغالبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة لعضوية فلسطين أو حتى الاعتراف الثلاثي الأوربي (أيرلندا، أسبانيا والنرويج) بدولة فلسطين في مايو 2024.
أخيرًا، فإن خيار الصمت في أوقات ومناطق الصراعات سواء الداخلية أو الدولية يرتبط بالأساس بطبيعة السياقات وتوازنات القوى وحسابات المتنازعين لجدواه وردود الفعل عليه، فقد يقود هذا الخيار إلى تأزم “شرعية” المتنازعين لأن غياب رد فعل لهم قد يضعف من قدرتهم على التمثيل السياسي ويجعلهم يدفعون ثمنًا باهظًا بفعل سوء الإدراك والتقدير لمخاطر الصمت.
في المقابل، قد يكون الصمت خيارًا فعالاً إن تحول إلى قوة مؤثرة تحقق أهداف المتنازعين دون اللجوء إلى كلفة الصدام المباشر، أو تم توظيفه كاستراتيجية مدروسة في إدارة الصراعات، أو تخفيض حدتها أو تسويتها أو حتى بناء السلام في مراحل ما بعد توقف العنف.
***
خالد حنفي علي ـ باحث مصري في مركز الإهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
______________