عماد علي نقريش
عوائق الانتقال الديمقراطي الليبي
بينما تتضارب المؤشرات في تحديد ما سوف تؤول إلية المراحل الانتقالية، فلا شك في أن ليبيا تحتاج إلى قطع شوط طويل حتى تتمكن من معالجة العواقب والآثار المترتبة على مساوئ النظم السابقة، ذلك إن تركتها لم تقتصر على انتهاكات حقوق الانسان، أو إهدار الأصول الطبيعية والمالية الوطنية، بل طالت المنظومة القيمية الحاكمة في المجتمع الليبي.
ولا جدال في أن إرساء نظام قيمي جديد نادرا ما يكتمل جميع أركانه، فهو يبقى دائما قابلا للتراجع، والسير إلى الخلف، والتبديل لا يكتسب نهائيا ، إذ أنه لا يجري على خط واحد، ومن أهم المعوقات التي تعرقل الانتقال الديمقراطي في ليبيا هي:
تخلّف الوعي السياسي
أسوأ عيب يمكن أن يصيب التنشئة السياسية هو الفشل في جعل المعرفة المحدد، لأن الوعي المؤسسي أقدر علميا على توسيع التصورات من الوعي القائم على الخرافات والخداع، مثل الوعي المنفتح على الإدراك.
الثقافات الأخرى أكثر قدرة على توسيع الآفاق من الوعي الواثق والمتمحور حول الذات.
تخبرنا تجارب التاريخ وقواعد المنطق أن الحاجة إلى التغيير والقدرة على تحقيقه مرتبطان بعاملين:
ـ عامل موضوعي يتمثل في الاجتماع السياسي يصل إلى حدود الأزمة، وانقطاع التواصل بين الأطراف. النظام السياسي والجماهير.
ـ عامل ذاتي يتمثل بإدراك الجماهير لقيمتها الحقيقية كمؤثرين في استقرار أو تغيير النظام.
ما لم يتوفر العامل الأخير، وإذا كان العامل، تظل الحاجة إلى التغيير قائمة، ولكن بدون القدرة على القيام بذلك، وهذا ما يفسر حالة الجمود السياسي التي عاشها الوطن العربي منذ فجر الاستقلال في البلاد العربية إلى 2011م رغم توافر العامل الموضوعي، وذلك بسبب غياب العامل الذاتي، الذي كان يتبلور ببطء، مما جعل المراقبين ينظرون إلى إمكانية توافره بشئ من الشك وعدم اليقين، ومن ثم لم يستطع أيَّ منهم التنبؤ بما حدث قبل حدوثه.
ويعد مصطلح الثورة من المصطلحات القديمة التي واكبت ظهور الدولة والحياة السياسية منذ ما قبل التاريخ. ويُستعمل هذا المصطلح لوصف التغيرات الجوهرية التي تطرأ على حياة الشعوب، وعلى الحضارة الإنسانية، إلا أن الاستعمال الأكثر رواجا له يذهب للتحولات الجذرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات، نتيجة حراك شعبي واسع.
لكن تغيير رأس النظام لا يعني حدوث ثورة، لأن الثورة لا تكتمل ولا تأخذ معناها الحقيقي إلا إذا حققت الأهداف التي قامت من أجلها. كما أن الثورة ليست مجرد خروج الناس للشارع لتهتف وترفع الشعارات أو تخرّب وتدمّر مؤسسات السلطة، إنما هي عملية مركبة ومتعددة الأبعاد، وخروج الناس إلى الشوارع أحد شروطها أو قبيل اشتعالها، ولكن ليست الثورة كذلك. فإن جميع الثورات تمرّ بمرحلتين:
ـ مرحلة الهدم التي يتم فيها إسقاط النظام السياسي القائم. وهذه مرحلة تنجح فيه كل الثورات تقريبا.
ـ مرحلة بناء النظام الجديد وأوضاع تتوافق مع أهداف الثورة ومع الوعود التي قطعها الثوار للشعب. وهذه المرحلة هي الأكثر صعوبة، لان الثورة في كثير من الاحيان تتعثر في بناء أوضاع جديدة أفضل من سابقتها فيجلس الثوار على أنفضاض ما هدموه ويتحولون إلى مستبدين جدد مع استمرارهم بالتغني بشعارات الثورة، بينما الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تزداد سوءا مما يثير حنق الجماهير المتطلعة للتغيير وعندئد تبدأ ثورة على الثورة ويبدأ الناس بالاجتماع والخروج إلى الشارع فتواجههم قادة نظام الثورة بقمع أشد فتكا من قمع الأنظمة السابقة.
وحين تتأزم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتصبح أحوال الناس لا تطاق، وعندما تتباعد الشقة بين الحاكم والجماهير، وتغيب وسائل التعبير السلمي، لا تجد الجماهير أمامها إلا التحرك لتغيير الأوضاع تغييرا جذريا، فالأمر إذا ليس يقضة مفاجئة للجماهير من بيات شتوي، إنما هو نتاج تراكمات استغرقت ما يربو على أربعة عقود، وتتمثل أول هذه التراكمات في العوامل السياسية، وذلك عندما حدثت فجوة بين الخطاب السياسي والواقع المعاش، فما تقدمه التصريحات من صورة مشرقة عن الانجازات الاقتصادية والاجتماعية، مما يجعل أزمة ثقة ومصداقية في خطاب السلطة وجعل الشباب ينقم على الأوضاع العامة، ويخرج في حركات احتجاجية تعبر عن حالة غضب.
أضف إلى ذلك الحضور المكثف للحزب الحاكم إداريا، ترافق ذلك مع ضعف القوى الحزبية وعدم تعبيرها عن مصالح الشباب وقضاياهم حيث لم تتمكن الأحزاب من القيام بدور فاعل ومؤثر في الحياة السياسية والاجتماعية، أما الانتخابات النيابية فقد غابت عنها النزاهة والشفافية، فلم يكن هناك تمثيل حقيقي للمجلس النيابي.
هدفت هذه الثورات إلى تحقيق الديمقراطية القائمة على التعددية والحريات السياسية والاجتماعية وحرية التعبير واحترام حقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة وفصل السلطات واستقلال القضاء وبناء الدولة وفق دستور حديث.
على الصعيد الاجتماعي، تحقيق العدالة الاجتماعية، ومكافحة الفساد والبطالة والفقر، وترسيخ مفهوم المواطنة والمجتمع المدني.
وعلى صعيد السياسة الخارجية رفض التبعية واستعادة الكرامة الوطنية، والحفاظ على الحقوق والهوية القومية، واستعادة دور الشعوب، وحماية ثرواتها القومية، والتصدي للتدخلات والإملاءات الخارجية، ومجابهة التحديات التي يشكلها الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة.
لقد ركز الفكر السياسي الإنساني على أهمية الوعي السياسي في بناء الأنظمة الديمقراطية، وهذا ما دونه المؤرخون خلال المراحلة التاريخية بدءا بالعصر الإغريقي الذي برز خلاله مصطلح (الفضيلة المدنية) وربطوه مع القيم الديمقراطية، وتمثلت حالات الوعي السياسي في الحاجة الإنسانية للإجتماع وتكوين السلطة في أطر سياسية كالقبيلة والقرية والمدينة والدولة.
وذلك ما ذهب إليه مفكرو العقد الاجتماعي عندما أشاروا إلى حالة المجتمع المضطربة مما أدى إلى تنازل الأفراد عن حقوقهم السياسية لصالح السلطة مقابل ضمان الغذاء والأمن. وذلك ما عبروا عنه بالوعي السياسي بالحاجة إلى التنظيم السياسي لإدارة المجتمع والدفاع عنه.
وقد قام النظام السابق باتخاذ موقف مغلق تجاه كل الروافد الثقافية، ووصمها بالغزو والاغتراب الثقافي، مما أدى إلى ارهاب الجماهير من الأنفتاح على الثقافات الأخرى، فنتج عنه تضييق واضح للأفق الفكري بشكل عام والسياسي بشكل خاص.
وفي الإثناء، سيطرت الأيديولوجية الشعبوية على كل شئ وأصبح الحاكم الأوحد يسيطر على كل شئ ويتولى نظاما قمعيا ودمويا يتخذ موقفا إقصائيا من الآخرين.
الثقافة السياسية لدى المواطن الليبي
للثقافة السياسية دورا مهما في عملية بناء الدولة، حيث تمثل نسقا متبادلا بين النظام السياسي والمجتمع، فالنظام السياسي يصوغ المخرجات، والمجتمع يساهم في صياغة المدخلات، وبما أن الثقافة السياسية هي التي تفرز المواطن الصالح المشارك في العملية.
يصنف المجتمع الليبي حتى وقت قريب ضمن المجتمعات القبلية الرعوية غير المستقرة، واستمر على حالة حتى اكتشاف النفط وبدء مرحلة التصدير، وتتعدد مصادر الثقافة السياسية في ليبيا فمنها المؤثرات الجغرافية، والتفاعلات التاريخية والمحددات التاريخية، والسياقات الاقتصادية والاجتماعية والخيارات
السياسات، ليست وليدة موقف معين أو لحظة زمنية قصيرة أو حدث سياسي عابر، بل هي نتاج تراكمات تاريخية وتراثية ودينية وسياسية واجتماعية وجغرافية، اجتمعت خلال فترات زمنية طويلة من خلال الممارسات والتجارب التي مرت بالمجتمع.
فإذا أخذنا في الاعتبار عددا من العوامل الأساسية كالمرجعية الفكرية والدينية للمجتمع، نجد أنه كغيره من المجتمعات العربية يتشابه معها في تأثير الروابط القبلية والدينية والقومية، مع اختلاف الذي يفرضه خصوصية كل مجتمع.
ومن العوامل الخاصة المؤثرة في الثقافة السياسية الليبية نجد الموقع الجغرافي، فليبيا كدولة ظاهرة حديثة، ولكن كجغرافيا سياسية قديمة جدا فهي معروفة منذ العصر الإغريقي، وأهميتها في موقعها وطول ساحلها البحري وانفتاح الأرض وسهولة التضاريس، واعتبارها نقطة وصل بين منطقتين مختلفتين في الثقافة والقيم والدين والسكان والإنتاج الزراعي والصناعي والتقدم التكنولوجي وغيرها.
وانعكس هذا الوضع الجغرافي على النشاط الاقتصادي الذي آثر بدوره على السياق السياسي في ليبيا. طول الساحل في الشمال وحدود الصحراء في الجنوب فرض نوعين من الخطر والخوف من المجهول بين الليبيين. خلال فترات تاريخية، جاءت المخاطر من الجانبين (الصحراء والبحر)، وأفرزت هذه البيئة ثقافة الحذر والخوف من المجهول، وتحالفا لتشكيل قوة قوية ضد تلك الأخطار.
وشكلت أيضا أثقافة التعاون والتحالف مع الآخرين من أجل تحقيق الأمن والقوة، ويتجلى هذا الأثر في مراحل الحياة وتشكيل تحالفات داخلية بين القبائل فيما بينها وتعاونها مع القبائل العربية الأخرى، بالإضافة إلى أن حقيقة تغيرات المناخ والبيئة لها تأثير على الأفراد.
لذا فإن درجة حرارة الصحراء، ونقص الغذاء، وندرة المياه، وتنوع المناخ، تزرع ثقافة الصبر والتحمل والمشاورة. هذا الواقع فرض نوعا من التعامل بين السكان لمواجهة تلك الأخطار والمصاعب وأسسا لتكوين تحالفات على مستوى القبيلة أو العشيرة.
كما أن الطابع القبلي يعني طابع التحالف بين القوى المجتمعية ضد الأخطار الخارجية نتج عنه التزام واتفاق في الوحدات الأساسية في المجتمع ابتداء من الأسرة حتى القبيلة كونت قيم الطاعة والإمتثال لولي الأمر.
إن البيئة الصحراوية والتي تغطي معظم ليبيا أثرت على المجتمع بتكوين تجمعات في الإقامة والسفر والترحال فلا يمكن التنقل بصورة فردية إلا ما ندر، وتلك المجموعات تتسم بالسمع والطاعة الكاملة لشيوخ القبائل، وعدم معارضتهم كرس لظهور قيم واتجاهات الولاء والطاعة والخضوع لسلطة القبلية، وتنفيذ ما يصدر دون إبداء الرأي أو المعارضة.
…
يتبع
***
عماد علي نقريش ـ قسم الدراسات الشرعية ـ أكاديمية الدراسات الاسلامية ـ جامعة ملايا
________________
المصدر: مجلة كلية الشريعة والقانون ـ جامعة الأزهر ـ العدد 35 ـ الجزء الأول (الاصدار الثالث) ـ يوليو 2023م