عماد علي نقريش
الأوضاع الاقتصادية المتردية
تشكل التنمية الاقتصادية حسب المقاربة الانتقالية دافعا حاسما لتحركات النخب المتنافسة صوب صياغة تسويات ديمقراطية، فيما تجمع المقاربات الثلاث على احتمال أن تقوّض الأزمات الاقتصادية العملية الديمقراطية برمتها.
وفي الحالة الليبية يبدو أن التنمية الاقتصادية ليست عاملا قادرا بمفرده على تفسير تحركات النخب السياسية صوب صياغة تسويات ديمقراطية.
غير أن الصراعات المسلحة، سواء كانت من أجل المصالح الاقتصادية أو من أجل فرض توجهات أيديولوجية بعينها، قد تضع البلاد على شفا أزمات اقتصادية تقوّض عملية التحول الديمقراطي المرجوة.
الاقتصاد الريعي والوفرة المالية
أدى تزايد دخل الدولة الليبية الناتج عن ارتفاع أسعار النفط خلال السبعينيات إلى سيطرة الدولة على الثروة الاقتصادية. وكان تدخل الدولة في الاقتصاد المحلي شاملا وعميقا، حيث هيمنت على القطاعين الصناعي والزراعي وتجارة الجملة والتجرئة، وامتلكت المصارف وشركات التأمين والخدمات الرئيسة الأخرى، فأصبح حوالى 75% من القوى العاملة يعملون في مؤسسات الدولة.
وقد أدى احتكار الدولة لعملية جمع الريع وتقييدها للأنشطة التي تسمح ببروز الشركات والمنشآت التنافسية المملوكة للقطاع الخاص إلى سعي المواطن إلى القيام بأنشطة ريعية غير منتجة.
وعندما بدأت الدولة في تبني إصلاحات اقتصادية في أواخر الثمانينيات، بدا واضحا تأثير هذه الأوضاع على استراتيجية الحرية الاقتصادية.
وبسبب توفر الدخل النفطي، تمتعت الدولة الليبية بدرجة عالية من الاستقلالية
أدت إلى التأثير في عملية بناء وتوسع الدولة في ليبيا. فبعكس الأنماط التقليدية لإنفاق دول الرعاية الاجتماعية ذات الاقتصاديات المنتجة والمستندة على توسيع القاعدة الضريبية التي تعتمد على توسيع وتنويع قاعدة الدخل، أفض الإنفاق في ليبيا إلى تكوين بنى بيروقراطية كبيرة تتميز بالأداء التوزيعي، فيما ظلت قدراتها التنظيمية والاستخراجية عند الحد الأدنى. ويسبب هيمنة الدخل النفطي على الاقتصاد المحلي، لم تكن هذه القدرات ذات اهمية بالنسبة للدولة الليبية.
والحال أن معظم طموحات وسياسات الدولة الليبية كانت قابلة للتحقق دون الحاجة إلى تطوير أو تمكين أو تعزيز المؤسسات البيروقراطية الأفقية المميزة للدولة الحديثة.
ولأن الاقتصاد الليبي ريعي بامتياز من واقع اعتماده شبه المطلق على إيرادات النفط في تمويل أوجه الإنفاق وفي توفير فرص العمل، فإن ملامح الريع تبدو واضحة جلية على آراء وميول الليبيين تجاه الأسئلة التي تضمنها المسح الشامل لآرائهم في القيم.
ويستدل من هذا المسح أيضا على تفشي ثقافة تواكلية ترسّخت عبر ردح طويل، من الزمن، تتمثل في اعتبار الوظيفة العامة حضن الأمان، وتتنافر مع قيم الإبداع والابتكار والمخاطرة التي تسم العاملين في مجال المبادرة الفردية، حيث لا تحظى قيم مثل الاستقلالية والإدخار والمثابرة إلا باهتمام أقلية من الليبيين.
الفساد المالي والإداري وسوء إدارة الموارد الاقتصادية
شرعت ليبيا منذ أوائل التسعينيات في إعادة هيكلة نظامها الاقتصادي، وفي التحول التدريجي من نظام تسيطر فيه الدولة سيطرة شبه كاملة على النشاط الاقتصادي إلى نظام يسمح تدريجيا للقطاع الخاص بالقيام بدور مهم في النظام الاقتصادي.
وقد بدأت تلك التغييرات بصورة بطيئة ومترردة، ثم اكتسبت زخما قويا في بداية الألفية الثالثة، خاصة بعد حل أزمة لوكربي ورفع الحصار الاقتصادي عن ليبيا وتحسّن علاقاتها مع البلدان الغربية.
وكان من الضروري، نتيجة لتغير توجهات السياسات الاقتصادية أن تبرز مشاكل تتعلق بقدرة الدولة على إدارة عملية التحول وتوجيهها على المستوى الكلي، والسيطرة على الفساد المالي والإداري المصاحب لعمليات التحول.
وهذا يعني أن نجاح عمليات الإصلاح الاقتصادي في ليبيا استدعت تطوير القدرات المؤسسية للدولة وتعزيز دورها في ضبط هذه العمليات وتنظيمها، إلى جانب تأسيس مستوى عال من الشفافية والمساءلة للسيطرة على الفساد المالي والإداري.
غير أن الدولة عجزت عن هذه السيطرة لأسباب أهمها: تداخل الاختصاصات والمسؤوليات وتضاربها بين المستويات السياسية والإدارية المختلفة وضمن كل مستوى منها.
إلى جانب غياب التوازن بين المسؤوليات المسندة إلى المستويات السياسية والإدارية وبين السلطة الممنوحة لها لضمان أدائها لمسؤولياتها وفرض قراراتها، حيث هناك مسؤوليات لا تصاحبها سلطات متكافئة معها، وسلطات لا تصاحبها مسؤوليات محددة.
تداعيات التحول الديمقراطي في ليبيا
ما من عملية ديمقراطية في أي دولة ما إلا وتشوبها بعض التداعيات على مستوى حدودها الجغرافية، وعلى مستوى تحدياتها الامنية والدولية، وقد قام الباحث بتقسيم هذه التداعيات إلى مستويين، الاول على المستوى الوطني، والثاني على المستويين الاقليمي.
أولا: تداعيات التحول الديمقراطي على المستوى الوطني
لعبت الاعتبارات الأمنية دورا بارزا رئيسيا في تحديد أفضل نهج أمني للمجتمع الدولي لمعالجة الوضع في ليبيا، حيث تقوم جهود دول الجوار على افتراض أن استمرار الفوضى داخل ليبيا سيؤثر بشكل مباشر على مستقبل ليبيا، الأمر الذي قد يؤدي إلى تهديد أمن حدود الدول المختلفة.
ويتجاوز ذلك التهديدات الاقتصادية والسياسية للدول الغربية مثل تعليق صادرات الغاز لإيطاليا لنحو اسبوع بسبب المواجهة مع إيطاليا. وبالتالي ينطلق جوهر تحليل الدول في العلاقات الدولية من كيفية تحقيق الأمن والاستقرار الوطني، خاصة في وجود ما يسمى بمجمع الأمن الإقليمي.
أن الأمن ظاهرة مترابطة ومن المستحيل فهم الأمن القومي لدولة معينة بصرف النظر عن الاعتماد المتبادل في الجانب الأمني، حيث يتم حل المشكلات الأمنية بطريقة تجعلها مترابطة بحيث لا يمكن حل المشاكل الأمنية بشكل فردي. وهذا من شأنه أن يدفع الدول لتبني سياسة أمنية مشتركة لتجنب انتشار الفوضى الأمنية في الأقليم.
ويشير مجمع الأمن الإقليمي إلى وجود درجة عالية من الترابط الأمني (قوة وضعفا) بين الوحدات التي يتكون منها المجمع، وترتبط الدول ارتباطا وثيقا بما يكفي لتكون واثقة من أن التفاعلات التي تحدث على المستوى الاقليمي لا يمكن التعبير عنها على أعلى مستوى بشكل منفصل عن بقية مكونات الأمن الاقليمي.
يمكن معالجة تأثير التحول الديمقراطي في ليبيا على الجيران كمكون أمني واحد، ولا يمكن فهم تكاليف عملية الانتقال بمعزل عن الدول الأخرى في الاقليم، لأن آثار الانتقال لا يمكن فهمها على أنها عزلة عن دول الجوار، وبالتالي تبرز معضلات أمنية تشكل تحديات حقيقية لسياسات الأمن القومي الدولي.
ثانيا: تداعيات التحول الديمقراطي على المستوى الاقليمي والدولي
من أهم المعضلات الأمنية التي تشكل تحديات حقيقية للسياسات الأمنية والإقليمية والدولية، هي:
ـ انتشار السلاح ومأزق التنظيمات المسلحة
تواجه عمليات أعادة إعمار الدولة الليبية سلسلة من التعقيدات الأمنية، فالأسلحة متوفرة بأعداد كبيرة، وبالتالي تصبح مخازن الأسلحة المتبقية موردا هاما لبعض الجماعات المسلحة التي انخرطت في عملية إسقاط النظام لكنها اتبعت بعد ذلك مسارات مختلفة، وخاصة أولئك الذين يرفضون العملية الديقراطية برمتها ويظلون مسلحين ويتحولون إلى مشكلة معقدة للدولة الليبية.
ـ اللاجئون والهجرة غير الشرعية
تعتبر ظاهرة اللاجئين والهجرة غير الشرعية من التحديات الأمنية الصعبة التي تعاني من الدول، خاصة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، حيث تشكل تهديدا مباشرا لدول الشمال والجنوب، وتصبح عقبة أمام تنمية المنطقة، وذلك يتطلب إقامة حوار أوروبي مع دول شمال افريقيا كدول عبور لهذه الظاهرة لإيجاد حل لمشكلة الهجرة.
ـ تكلفة التدخل الخارجي في المنطقة
الدافع الأكبر لصياغة مبدأ مسؤولية الحماية في النزاعات المسلحة هو عدم كفاية استجابة المجتمع الدولي لعمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي حدثت في الصومال وراوندا وكوسوفو في القرن الماضي، وظهور الخلافات حول شرعية التدخل الإنساني.
في خضم التداعيات والتحديات الأمنية التي يشهدها دول جوار ليبيا، يتطلب الوضع تظافر الجهود من قبل المجتمع المحلي والإقليمي والدولي لإيجاد نهج وطني واع لإدارة الازمات. ولا يهم ما إذا كان يتم الحفاظ على السلام في نزاع معين أو يتم السعي لحل الازمة من خلال الجهود الدبلوماسية.
بدلا من ذلك، يجب إحلال السلام وتوطيده بين أطراف النزاع حتى لا يتم تجاوز عملية التحول الديمقراطي باعتبارها تهديدا لأمن واستقرار الشعوب.
***
عماد علي نقريش ـ قسم الدراسات الشرعية ـ أكاديمية الدراسات الاسلامية ـ جامعة ملايا
________________
المصدر: مجلة كلية الشريعة والقانون ـ جامعة الأزهر ـ العدد 35 ـ الجزء الأول (الاصدار الثالث) ـ يوليو 2023م