المحرر
ثالثا: التاريخ الطويل من الاستبداد
ليبيا شهدت فترة طويلة من الحكم الاستبدادي تحت نظام معمر القذافي، مما أدى إلى قمع النشاطات السياسية وتقييد حرية التعبير وتشكيل الأحزاب. هذا التاريخ ترك فراغًا في الثقافة السياسية حيث كانت الأحزاب غير موجودة أو غير نشطة.
التاريخ الطويل من الاستبداد له تأثير عميق على الحياة السياسية الحزبية في البلاد، سواء في الوضع الراهن أو المستقبل السياسي. ويمكن تلخيص التأثيرات على النحو التالي:
التأثيرات على الوضع الراهن:
فترة الدكتاتورية والاستبداد الطويلة التي بدأت بتجريم الحزبية وألغت الأحزاب وغيبت الكثير من القيادات الحزبية أدت إلى غياب تجربة حقيقية في الحياة الحزبية، مما أضعف الثقافة السياسية وأعاق تأسيس الأحزاب السياسية المستقرة. كما أدت إلى عدم وجود تقاليد ديمقراطية لعدة عقود، مما جعل، بعد سقوط النظام، من الصعب تبني نظام حزبي يعمل بشكل فعّال، وذلك بسبب ضعف الوعي بأهمية الأحزاب كوسيلة للتعبير السياسي وتنظيم المصالح.
عقود الاستبداد أضعفت الثقة في المؤسسات السياسية والأحزاب، حيث يُنظر إليها على أنها امتداد للنظام الاستبدادي وليس كأدوات للتغيير أو المشاركة السياسية.
بناء الأحزاب السياسية في سياق ما بعد الاستبداد يكون صعباً، حيث يواجه المؤسسون تحديات كبيرة في تنظيم الهياكل الحزبية وتطوير برامج سياسية فعّالة. كما أن الانقسامات السياسية والقبلية تعقد جهود تشكيل أحزاب موحدة وفعّالة، وتساهم في استمرار النزاعات وتفتيت الجهود السياسية.
التأثيرات على المستقبل السياسي:
لاستعادة الثقة في الأحزاب السياسية والرفع من أهمية المشاركة السياسية، سيكون من الضروري إجراء إصلاحات شاملة تهدف إلى تحسين الشفافية والمساءلة داخل الأحزاب والمؤسسات السياسية، فليبيا تحتاج إلى تعزيز الثقافة الديمقراطية وتعليم الأجيال الجديدة أهمية الأحزاب كجزء من العملية السياسية.
مما لا شك فيه أن تاريخ الاستبداد وإرثه سيؤدي إلى استمرار الانقسامات بين القوى السياسية، مما يعوق جهود بناء نظام حزبي متماسك ويؤخر تحقيق الاستقرار الديمقراطي.
وفي ظل غياب ضمانات قوية، هناك خطر من أن المجموعات التي تتنتمي لدولة الاستبداد، والتي تعلن أنها تؤمن بالديمقراطية وأهمية الحزبية فيها، ستسعى لكي تعيد إنتاج نفس أساليب الاستبداد التي سقطت مع النظام، وفي الواقع أن تلبس جبة الحزبية الديمقراطية وترفع شعار التداول السلمي للسلطة، ولكن هدفها الحقيقي هو إعاقة التحول الديمقراطي ومحاربة المسيرة الديمقراطية الحقيقية.
إن الأمر الوحيد الذي قد يوفره تاريخ الاستبداد هل تلك الدروس القيمة حول أهمية العمل السياسي المنظم وخاصة العمل الحزبي بالاضافة لمؤسسات المجتمع المدني، وأيضا ضرورة المشاركة السياسية الشعبية البعيدة عن الشعبوية والغوغائية والتصدى لعودة الدكتاتورية والاستبداد، مما يساعد على بناء أحزاب أكثر نضجًا وفعالية في المستقبل.
في الخلاصة، يمكن القول بأن التاريخ الطويل للاستبداد في ليبيا وضع تحديات ضخمة أمام مسيرة عودة الحياة السياسية الحزبية، مما عطل امكانية بناء نظام حزبي فعّال وناضج. ولتجاوز هذه التحديات، سيكون من الضروري العمل على تعزيز الثقة في المؤسسات، وتبني إصلاحات سياسية جادة، وبناء ثقافة ديمقراطية قوية تساهم في تحقيق استقرار سياسي ونمو مستدام في المستقبل.
رابعا: الانقسامات الداخلية
شهدت ليبيا انقسامات كبيرة بين مختلف الأطراف السياسية والمجتمعية، مما أدى إلى خلق بيئة غير مستقرة لا تشجع على بناء تحالفات حزبية قوية أو تنمية ثقافة حزبية متماسكة.
لانقسامات الداخلية تؤثر بشكل كبير على الحياة السياسية الحزبية في ليبيا، كما يلي:
التأثيرات على الوضع الراهن:
الانقسامات بين الفصائل المختلفة تؤدي إلى تشرذم القوى السياسية، مما يعيق بناء أحزاب سياسية قوية ومتسقة، كما تجعل الأحزاب القائمة في معاناة من ضعف الأنتماء الحزبي والتشظي المجتمعي وتفكيك الهوية الوطنية إلى هويات فرعية، وكل ذلك يقلل من فعالية ويعطل عملها السياسي.
الانقسامات السياسية في غياب الثقافة الحزبية وتبني التحالفات الحزبية تجعل من الصعب الوصول إلى توافق حول السياسات العامة، مما يعيق تقدم العملية السياسية.
إن مناخ الممارسة السياسية الانتهازية والكيدية والفاسدة، يشجع بعض الجماعات التي تعلن قناعتها بالعمل الحزبي ولكنها تسعي للحصول على مصالحها الخاصة من توظيف النزاعات الداخلية بدلاً من تقديم برامج سياسية واضحة أو تنفيذ استراتيجيات فعالة. أما بالنسبة لأهداف الاحزاب الوطنية في تحقيق مصالح الشعب ونهضة المجتمع والدولة، فإن الانقسامات السياسية ستستبدل المصلحة الوطنية بمصالحها الخاصة التي ليست في مصلحة الوطن والبلاد.
التأثيرات على المستقبل السياسي:
الانقسامات الداخلية قد تعقد جهود تأسيس أحزاب جديدة وتطويرها، مما يعوق بناء نظام سياسي مستقر. وفي حالة استمرار الانقسام السياسي والاجتماعي، فقد
يستمر النزاع والاحتراب والفوضى إلى مدة أطول مما يعيق عملية بناء توافق سياسي وتطوير نظام حزبي فعّال.
ونستخلص من كل هذا أن الانقسامات الداخلية تخلق تحديات كبيرة للحياة السياسية الحزبية في ليبيا، حيث تعيق بناء أحزاب قوية وتؤثر على العملية السياسية بشكل عام. ولمواجهة هذه التحديات، من الضروري تعزيز التفاهم والحوار بين الفصائل المختلفة والعمل نحو تحقيق المصالحة وبناء نظام حزبي مستقر وقوي.
_________________