إبراهيم عبد العزيز صهد

لا شك أن الاستحقاق الدستوري بات يشكل أهم مفردات المرحلة الانتقالية، كما أنه يمثل الركيزة الرئيسة لبناء الدولة الليبية الجديدة التي نريدها مبنية على المرجعية الدستورية، وعلى سيادة القانون، وعلى ممارسة السلطة من خلال مؤسسات تتولى مهامها عن طريق التخويل الشعبي، وتخضع لرقابة ومحاسبة الأمة، وتنضبط صلاحياتها بموجب الدستور.

هذه ورقة تحاول أن تسلط الضوء على مسألة غاية في الأهمية، وهيالمرجعية الدستورية، وكيف تتحقق”

وهو موضوع واسع ومتشعب ومهم جدا، يحتاج بحثه إلى وقت أطول، ولهذا فستكون هذه الورقة مركزة وملخصة، وبمثابة رؤوس أقلام للمباحث التي يحتويها الموضوع.

ويحدوني الأمل في أن تكون هذه الورقة جزءا من حوار يمتد بيننا حول الدستور: أهميته وما يقدمه للأمة وللحكومة .. والشروط الواجب توافرها في الوثيقة الدستورية.

وهو حوار لا غنى عنه في مضمار التطور الدستوري للأمة الليبية، ينبغي أن يبدأ ويتواصل، نراجع من خلاله تجربتنا الدستورية السابقة، ونستطلع تجارب غيرنا من الأمم، ونؤسس وفاقا وطنيا حول المطلب الدستوري، لا من ناحية المبدأ فحسب، ولكن ليشمل كل النواحي المحيطة بالمسألة الدستورية.

وفي البداية ينبغي الإشارة إلى أمرين، أرى أن من الضرورة بمكان أن يكونا حاضرين أثناء أي بحث أو حوار حول المسألة الدستورية في ليبيا:

أولا: أن الحكم الهمجي المنهار قام أساسا على إلغاء الدستور ومقاومة المطالبة به ثم تسفيه الفكرة الدستورية من أصلها. تم ذلك على مدار سنوات حكمه العجفاء.

ولهذا فلا بد أن ندرك أن هذا الحكم قد ترك بصمات أثّرت على رؤية الناس وتقديرهم لأهمية الدستور، فاختلفت نظرتهم إلى مكانة الدستور ضمن الأولويات التي تعترض بناء الدولة، كما اختلفت نظرتهم إلى أهمية ضبط الآلية التي يتم بها صياغة مسودة الدستور.

بل إنك لا تعدم من يقول بأن الدستور كمالية وليس ضرورة أساسية. هذه البصمات ناشئة عن حجم حملات التجهيل المقرونة بالقمع التي مارسها الحكم المنهار لمدة أربعة عقود.

ثانيا: أن أطروحات بدأت تنشأ وتعمم،

  • منها ما يقول بإمكانية صياغة مسودة دستورية في مدة زمنية لا تكفي حتى للاتفاق على الأسس التي ينبغي أن ينبني عليها دستور الدولة،

  • ومنها ما يقول بإمكانية صياغة مسودة الدستور من قبل لجنة معينة (ومن يعينها؟)، ويستبعد بالتالي انتخاب الجمعية التأسيسية،

  • ومنها ما يخلط خلطا شائنا بين الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الانتقالي ومسودة الدستور المرتقبة التي ستكون الوثيقة الأولى نحو الدستور الدائم،

  • ومنها ما يريد بطريقة مباشرة أن يجعل مسألة التطور الدستوري مقصورة على “النخب” وعلى حملة الشهادات القانونية ويبعد عنها عموم الأمة الليبية،

  • ومنها ما يقدم نصوصا جاهزة من إعداد شخص أو عدة أشخاص تطرح على أنها تصلح لأن تكون مسودة للدستور.

  • وواضح أن هذه الأطروحات تخل إخلالا جوهريا بما تعنبه الوثيقة الدستورية، وما تتطلبه صياغتها من خطوات وآليات، وتخل بمفهوم العلاقة بين الأمة ودستورها، وما ترتجيه الأمة من هذا الدستور.

  • هذا يملي علينا أن نسعى إلى تكوين فهم عميق وشامل لأهمية الدستور ودوره في الحياة السياسية للأمة، حتى نتمكن من تعميق وعينا بالدستور، ومن مواجهة الاستحقاق الدستوري بطريقة تكفل للأمة المشاركة الفعلية الواعية في أي تطور دستوري جديد.

تمهيد

كثيرا ما يجري الخلط بين مصطلحي العقد الاجتماعي، والقانون الدستوري. وهما وإن كانا مختلفين، إلا أنهما متداخلان ويكمل أحدهما الآخر.

وإذا ما نظرنا إلى كل دولة لوجدنا أنها نسيج يربطه عقد اجتماعي، قد يكون مكتوبا أو متعارفا عليه. وقد تقرر اعتبارات التاريخ والجغرافيا هذا العقد، وقد تقرره اعتبارات الأعراق والانتماءات والمصالح المشتركة، أو قد تقرره اعتبارات سياسية متنوعة.

ومن هنا نجد فقهاء القانون يعتبرون “العقد الاجتماعي الأداة التي التزم أفراد المجتمع بمقتضاها بالرابطة المشتركة وانتظموا فيها”، أي بمعنى آخر فإن العقد الاجتماعي هو المؤسس للدولة.

أما الدستور، فيذهب فقهاء القانون بشكل عام، وفقهاء القانون الدستوري بشكل خاص إلى أن دستور الدولة “يمثل الإطار العام لكل من شرعيتها ومشروعيتها ، فهو الأداة التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها، وتحدد السلطات، وكيفية تكوينها واختصاصها والعلاقة فيما بينها، كما تبين الحقوق والواجبات”.

وباختصار فالدستور هو “القانون الأساس الذي يكون ركيزة لنشوء الدولة القانونية وأساساً لسيادة القانون، وحائلا دون ممارسة الاستبداد والانحراف بالسلطة”، فالدستور ينظر إليه على أنه أسمى من القوانين العادية، وهذا السمو هو الضمانة لحقوق الأفراد وحرياتهم.

مما تقدم، نستطيع أن نرى العلاقة بين العقد الاجتماعي والدستور، فالأول تولى إنشاء الدولة والثاني تولى تنظيمها.

ولهذا يقول بعض فقهاء القانون: بأن الدستور المدون هو تجديد لذلك العقد وترسيخ له.

وفي الحالة الليبية، فقد تمثل العقد الاجتماعي في اتفاق الليبيين على إقامة دولة ليبيا بحدودها المعروفة، ثم في اتفاق الجمعية الوطنية التأسيسية في 2 ديسمبر 1950 على إصدار قانونين أساسيين حول شكل الدولة ونظام الحكم.

ثم جاء إقرار الجمعية الوطنية التأسيسية للدستور الليبي في 7 أكتوبر من عام 1951، ليؤسس الدولة وينظمها ويحدد الأسس والعلاقات بين أجهزة الحكم بعضها بعضا وعلاقتها بعموم الأمة الليبية.

وإذا كان الانقلاب العسكري قد مثل تعديا على مؤسسات اكتسبت شرعيتها من الدستور، فقد أدى إلغاء الدستور إلى تغييب المرجعية الشرعية نفسها. النتيجة لم تقتصر فحسب على استبداد الحكم وانحرافه بالسلطة الوجهة غير الشرعية.

ولكنها شملت علاوة على ذلك تكريس وتقنين وممارسة العنف والقمع للانفراد بالتشريع والقرار، وللحيلولة دون مشاركة الأمة الليبية في كافة القرارات سواء تلك التي تشكل حاضر ومستقبل الدولة، أو التي تعني بشؤون المواطنين في الداخل، أو المتعلقة بالعلاقات الدولية.

ليس هذا فقط، بل إن الحكم اعتمد سياسة تسفيه الدستور، والاستهزاء بمكانته، وقمع كل المطالبين به، ورفض كل الأدوات والآليات التي يمكن أن تقود إلى العودة إلى الشرعية الدستورية.

يتبع

______________

المصدر: مدونة الكاتب

مقالات مشابهة