محمد صخري
تعد المواطنة من القضايا القديمة المتجددة التي ما تلبث أن تفرض نفسها عند معالجة أي بعد من أبعاد التنمية بالمفهوم الإنساني الشامل بصفة خاصة ومشاريع الإصلاح والتطوير بصفة عامة.
ويفسر ذلك ما تناله المواطنة من اهتمام على المسارات التالية :
تشريعياً: حيث تتضمن دساتير جميع دول العالم تقنيناً لحقوق المواطن وواجباته.
تربوياً : حيث نُظم التنشئة التي تسعى إلى تكريس وعي المواطنة قيماً وممارسات لدى النشء من أجل تحقق الاندماج الوطني.
سياسياً : في صورة بُنى وآليات مؤسساتية تستوعب مشاركة أفراد المجتمع في بنية الدولة الوطنية الديمقراطية .
في هذا السياق احتلت هذه القضية مساحة كبيرة في الدراسات السياسية والاجتماعية والتربوية ، وتعددت أبعاد المواطنة في علاقاتها الممتدة عبر قضايا تتمحور في علاقة الفرد بالمجتمع والدولة من خلال أطر قانونية منظمة للحقوق والواجبات ، ومبينة مواصفات المواطن وأبعاد المواطنة حسب المنابع الفكرية للدولة ومرجعية نظرياتها السياسية .
وأنتجت أطروحات الفكر في مختلف دول العالم، العديد من الرؤى الفكرية حول مفهوم المواطنة ومبادئها، حقوقها وواجباتها، تنوعت بتنوع مبادئ الفكر ونظرياته السياسة.
وفي العالم العربي اختلفت أطياف الفكر كذلك ليس فقط حسب الاختلاف المنهجي القُطري بل أيضاً في داخل القُطر الواحد باختلاف الأيديولوجيات التي تعاقبت بتعاقب مراحل الحكم وإدارة الدولة في الحقب الزمنية المختلفة.
ذلك مما أوجد أنماطاً متعددة من الوعي لدى الشعوب العربية تداخلت أحياناً وتصادمت أحيانا ً أخرى ، وأثرت على دوائر الانتماء مما أدى إلى العديد من الانعكاسات السلبية على مبدأ المواطنة ذاته,
وكذلك ممارساتها من قبل الأفراد ومع تغير طبيعة العالم المعاصر من حيث موازين القوى ، وسيطرة القطب الواحد، وظهور التكتلات السياسية والاقتصادية ، وتنامي البنى الاجتماعية الحاضنة للفكر الليبرالي وعبوره للحدود الجغرافية والسياسية على الجسور التي مدتها تكنولوجيا الاتصال.
وكان التركيز أيضا على خيارات الفرد المطلقة كمرجع للخيارات السياسية اليومية في دوائر العمل والمجتمع المدني والمجال العام ، مع هذه التغيرات العامة، بالإضافة إلى التغيرات الخاصة التي تحيط بالعرب والمسلمين.
وبالتالي فقد شهد مفهوم المواطنة تبدلاً واضحاً في مضمونه واستخداماته ودلالاته والعيوب بمبادئه وما يرتبط به من قيم وسلوكيات تمثل معول هدم أو بناء لواجهة المجتمع وهيكل الدولة .
وعلى رغم ما تنفرد به المواطنة وما يتداخل معها من مفاهيم الانتماء، من خصوصية في المرجعية وآليات التشكيل والبناء والممارسة، إلا أنها وعلى مدى السنوات القليلة الماضية شهدت تحدياً جديداًَ يتمثل في عملية الانفتاح الثقافي الذي تعددت آلياته ووسائله، لتخاطب الشباب عن بعد وتقدم العديد من التفسيرات والتأويلات المنحرفة للأحداث الإقليمية والدولية.
كما أنها تسلط الضوء على قضايا مجتمعية تمس جوهر هذا المفهوم لدى الفرد ، وتعرض إطاراً مفاهيمياً مغلفاً بشعارات تأخذ بالمشاعر وتؤثر على مسارب تفكير العقول ، خاصة لدى فئة الشباب ومن هم في سن القابلية للاحتواء بحكم خصائص المرحلة العٌمرية التي يعيشونها.
ويثير ذلك جدلاً في الأوساط السياسية والدينية والتربوية حول مدى تأثر مفهوم المواطنة لدى الشباب بهذه الأفكار التي يحملها الأثير عبر الحدود ، ودور مؤسسات المجتمع في الحفاظ على البنية السليمة لوعي المواطن وممارسته للمواطنة .
لقد شهدت العقود الأخيرة من القرن الماضي أحداثاً متلاحقة وتطورات سريعة جعلت عملية التغيير أمراً حتمياً في معظم دول العالم، وقد انتاب القلق بعض المجتمعات من هذا التغير السريع، ومنها الدول العربية والإسلامية التي تخشى أن تؤدي هذه التحولات الاجتماعية المتسرعة والمرتبطة بالتطور العلمي السريع إلى التأثير على قيمها ومبادئها وعاداتها وتقاليدها بفعل الهالة الإعلامية الغربية.
والمفهوم الحديث للمواطنة يعتمد على الإتفاق الجماعي القائم على أساس التفاهم من أجل تحقيق ضمان الحقوق الفردية والجماعية ، كما أن المواطنة في الأساس شعور وجداني بالارتباط بالأرض وبأفراد المجتمع الآخرين الساكنين على الأرض وهي لا تتناقض مع الإسلام لأن المواطنة عبارة عن رابطة بين أفراد يعيشون في زمان ومكان معين أي جغرافية محددة، والعلاقة الدينية تعزز المواطنة.
أهم المفاهيم المرتبطة بالمواطنة
ورد في لسان العرب بأن مفهوم الوطن لغة يشير إلى المنزل يقيم فيه الإنسان، فهو وطنه ومحله.
أما اصطلاحاً فتعرفه آمنة حجازي بأنه بشكل عام قطعة الأرض التي تعمرها الأمة، وبشكل خاص هو المسكن فالروح وطن لأنها مسكن الإدراكات، والبدن وطن لكونه مسكن الروح، والثياب وطن لكونها مسكن البدن، فالمنزل والمدينة والدولة والعالم كلها أوطان لكونها مساكن.
التعبير القانوني للمواطنة في القانون الدولي هي الجنسية وهي رابطة قانونية تربط شخصاً بدولة، فهي رابطة قانونية بين الشخص والدولة تترتب عليها حقوق والتزامات متبادلة بينهما وهي رابطة سياسية لأنها أداة لتوزيع الأفراد جغرافياً بين الدول وتجعل الشخص احد أعضاء شعب الدولة.
فالشعب وهو ركن أساسي من أركان الدولة يتكون من مجموع الأفراد الذين يرتبطون في الدولة قانونياً وسياسياً برابطة الجنسية ويصبحون بموجبها وطنيين يتمتعون بالحقوق ويلتزمون بالواجبات ويختلف من جراء ذلك مركزه القانوني في الدولة عن المركز القانوني للأجانب، خاصة للتمتع بالحقوق السياسية وحق العمل وتملك العقارات وأداء الخدمة العسكرية.
أما التعريف الإسلامي للمواطنة فينطلق من خلال القواعد والأسس التي تنبني الرؤية الإسلامية لعنصري المواطنة وهما الوطن والمواطن وبالتالي فإن الشريعة الإسلامية ترى أن المواطنة هي تعبير عن الصلة التي تربط بين المسلم كفرد وعناصر الأمة، وهي الأفراد المسلمين، والحاكم ، وتُتوج هذه الصلات جميعاً الصلة التي تجمع بين المسلمين وحكامهم من جهة، وبين الأرض التي يقيمون عليها من جهة أخرى.
وبمعنى آخر فإن المواطنة هي تعبير عن طبيعة وجوهر الصلات القائمة بين دار الإسلام، وهي (وطن الإسلام) وبين من يقيمون على هذا الوطن أو هذه الدار من المسلمين وغيرهم.
كما أن هناك مستويات للشعور بالمواطنة وهي:
1 – شعور الفرد بالروابط المشتركة بينه وبين بقية أفراد الجماعة كالدم والجوار والموطن وطريقة الحياة بما فيها من عادات وتقاليد ونظم وقيم وعقائد ومهن وقوانين وغيرها.
2 – شعور الفرد باستمرار هذه الجماعة على مر العصور، وأنه مع جيله نتيجة للماضي وأنه وجيله بذرة المستقبل.
3 – شعور الفرد بالارتباط بالوطن وبالانتماء للجماعة، أي بارتباط مستقبله بمستقبلها وانعكاس كل ما يصيبها على نفسه، وكل ما يصيبه عليها.
4 – اندماج هذا الشعور في فكر واحد واتجاه واحد وحركة واحدة.
ومعنى ذلك أن مصطلح المواطنة يستوعب وجود علاقة بين الدولة أو الوطن والمواطن وأنها تقوم على الكفاءة الاجتماعية والسياسية للفرد، كما تستلزم المواطنة الفاعلة توافر صفات أساسية في المواطن تجعل منه شخصية مؤثرة في الحياة العامة، والتأثير في الحياة العامة والقدرة على المشاركة في التشريع واتخاذ القرارات .
ولبيان الفرق بين مفهوم المواطنة والوطنية يجب إدراج مفهوم آخر لا يقل أهمية عن المفهومين السابقين وهو مفهوم التربية الوطنية الذي يشير إلى ذلك الجانب من التربية الذي يشعر الفرد بصفة المواطنة ويحققها فيه، والتأكيد عليها إلى أن تتحول إلى صفة الوطنية، ذلك أن سعادة الفرد ونجاحه، وتقدم الجماعة ورقيها لا يأتي من الشعور والعاطفة إذا لم يقترن ذلك بالعمل الإيجابي الذي يقوم على المعرفة بحقائق الأمور والفكر الناقد لمواجهة المواقف ومعالجة المشكلات.
فبهذا الجانب العملي تحصل النتائج المادية التي تعود على الفرد بالنفع والارتياح والسعادة، وعلى الجماعة بالتقدم والرقي.
ومعنى ذلك أن صفة الوطنية أكثر عمقاً من صفة المواطنة أو أنها أعلى درجات المواطنة، فالفرد يكتسب صفة المواطنة بمجرد انتسابه إلى جماعة أو لدولة معينة، ولكنه لا يكتسب صفة الوطنية إلا بالعمل والفعل لصالح هذه الجماعة أو الدولة وتصبح المصلحة العامة لديه أهم من مصلحته الخاصة.
وإذا ربطنا مفهوم المواطنة بالديمقراطية نجد أن المواطنة ركيزة الديمقراطية، فلا يوجد مجتمع ديمقراطي، لا يعتمد في بنيانه على كل مواطن.
***
محمد صخري ـ باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية والدراسات الأمنية ـ جامعة الجزائر
____________
المصدر: بحث للكاتب بعنوان “ملف شامل عن المواطنة“