نقاط منهجية مهمة للفهم

في ليبيا مجتمع غني بتركيبته الديمغرافية والسوسيوثقافية لكن هذا المجتمع الغني والثري لم يواكبه مجتمع مدني فاعل ومؤثر؛ فالقبيلة في ليبيا تزحف على المعترك السياسي فتجعله أرضًا قاحلةً، وهذه القبيلة التي يتجاوز عدد أفرعها “150 قبيلةتم توظيفها سياسيًا في ليبيا خصوصًا في مرحلة حكم العقيد القذافي الذي عمل على تصحير الحياة السياسية، وحقنها بأيديولوجيا رماديةترفض كل لون سياسي بدعوى من تحزّب خان، والحزبية إجهاض للديمقراطية، والتمثيل السياسي تدجيل، وغيرها من الأذرع السياسية الأيديولوجية المقيتة.

لكن للأسف الشديد وقعت الثورة الليبية الجديدة لسنة (2011) أسيرة لقبضة القبيلة التي أحكمت خناقها على العمل السياسي والبرلماني والجمعياتي؛ فدخل الجميع في حرب ضد الكل، وأصبح الخوف مهيمنًا على الجميع لأننا أمام حالة يتم فيها إسقاط الدولةوليس السلطة؛

لذلك يتعين على المجتمع المدني الليبي الوليد مهام جسام تتمثل في محاربة تسييسالعمل السياسي، والقضاء على ثقافة الاقتتال والتناحر وترقية المجتمع المدني في مجال محاربة الفساد وتعزيز الشفافية.

ففي ليبيا يبلغ عدد السكان 6.1 مليون نسمة تقريبا وبنسبة فقر تجاوزت 37%، وقد تجاوز عدد القتلى من ضحايا المجازر والإرهاب والثورة إلى اللحظة الراهنة أكثر من 1400 قتيل حسب بعض المصادر المطلعة، وهي حاليًا ضمن أسوأ خمس دول في ترتيب مدركات الفساد إذ احتلت المرتبة 172 ضمن 177 دولة لسنة 2013 حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية.

في وليبيا زحف قوي لعناصر البَدْونة على جميع مقومات الحياة السياسية، وبدلاً من أن يقع تمدين وتطوير القبيلة بروح المواطنة وقع العكس؛ إذ افترست القبلية بشرائحها كل مقومات السلطة وعناصر الدولة، وسحقت المجتمع المدني الفتي، فجعلته رقمًا دون فاعلية!

الحالة الليبية

حتى أواخر القرن التاسع عشر وتحديدًا مع ما يسمى في التحقيب التاريخي الليبي بالعهد العثماني الثاني 1835-1911، عاش الكيان الليبي عدة قرون من ظلام المعرفة الدامس لم يعرف فيها نور العلم والثقافة طريقه إلى عقول أبنائه باستثناء شذرات بسيطة لا تُذكر من التعليم الديني المرتكز في الأساس في الكتاتيب التابعة للمساجد والزوايا التي قامت بالجهود الشعبية في إطار التبرع أو الأوقافبتحفيظ القرآن الكريم وتحفيظ وتعليم القراءة والكتابة وبعض العلوم الفقهية البسيطة.

ويصف الرحالة الحشايشي، الذي مرّ على مدينة طرابلس في منتصف القرن التاسع عشر، واقع العلوم والمعرفة في البلاد آنذاك أما العلوم والمعرفة العصرية فلا توجد عندهم، بل لا يشمون لها رائحة، كما لا يوجد عندهم علماء أعلام من فقهاء الإسلام“.

في سنتي 1882-1883 عرفت البلاد أول جمعية ثقافية سياسية، هي: القراءخانة، أسسها إبراهيم سراج الدين في طرابلس الغرب، وضمت في عضويتها عددًا من شخصيات البلاد ونخبتها من أمثال المؤرخ أحمد النائب والشيخ حمزة ظافر المدني.

كما يمكن اعتبار مدرسة الفنون والصنائع(1898) من ضمن المؤسسات الخيرية الأهلية التي قامت في العهد العثماني بدور النهضة الثقافية.

وفي فترة الاحتلال الإيطالي لم تقم السلطات الإيطالية بأي عمل مجتمعي يمكن أن يُصنّف في خانة العمل المدني بل عملت على تكريس إدارة عسكرية عنصرية لا تهتم إلا برعاياها الإيطاليين، وبالرغم من طبيعة الاستعمار الشرسة كان إنشاء النادي الأدبي في سنة 1920 أول مشروع ليبي مدني، وقد أسسه في طرابلس الأخوان: أحمد وعلي الفقيه حسن كجمعية انبثق عنها مكتبة ومدرسة، ولكن سرعان ما أغلقت السلطات الاستعمارية هذا النادي ثم أُعيد نشاطه الثقافيالسياسي خلال فترة الإدارة البريطانية 1943.

وتحول النادي بعد ذلك إلى حزب سياسي هو الحزب الوطني الذي تحول بعد ذلك ليصبح حزب الكتلة الوطنية.

لقد ساعد تنوع ليبيا من الناحية الجغرافية (انقسامها إلى طرابلس وبرقة وفزان)، وتنوعها الأنثربولوجي والاجتماعي وحتى الإيكولوجي ووجود حساسيات مخيالية على بروز تشكيلات سياسية ودينية محلية، مثل:

سلطة أولاد محمد في فزان (1550-1812)،

الجمعية السنوسية في برقة (1870-1931)،

السلطة العثمانية المركزية (1835-1911)،

والجمهورية الطرابلسية (1918-1920) التي تعد بحق، بداية تمظهر الزعامة السياسية في ليبيا المعاصرة.

ولقد تصدى للعمل الخيري والديني في هذه المرحلة زوايا وأخويات دينية، أهمها:

  • زاوية الشيخ عبد السلام الأسمر في مدينة زليتن.

  • زاوية الشيخ إبراهيم المحجوب بمدينة مصراتة.

  • زاوية الشيخ أحمد زروق بمدينة مصراتة.

  • زاوية الشيخ الدوكالي في مسلاته.

  • زاوية الشيخ النعاس في تاجوراء.

وهذه الزوايا كانت رافدًا اجتماعيًا مهمًا في العمل الأهلي في المرحلة السنوسية الملكية.

بعد سنة 1969، تاريخ إعلان ثورة ليبيا، أُحكم الخناق تمامًا على كل صوت مخالف؛ ففي عام 1977 غيّر القذافي اسم ليبيا إلى الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية؛ إذ مثّلت الجماهيرية نظامًا جديدًا للحكم مبنيًا على مبادئ الكتاب الأخضرللقذافي.

أنتج نظام الجماهيرية نظام حكم بالغ التعقيد يشمل وفرة من المؤتمرات واللجان، مع صلاحيات متداخلة في الغالب، أسهمت في نشوء إحساس بالفوضى المنسقة والدائمة، ويبدو أن هذه الفوضى المنظمة كانت النتاج المقصود لتصميم القذافي على السيطرة الفردية الكاملة“. 

ومن اللافت أن القذافي نفسه ادعى أنه لم يشغل أي منصب في السلطة في الدولة الليبية، بل إنه كان يصف حكمه كحكم قائد أو متبصر حيث كان يتبنى لقب الأخ القائد“.

وقد مكّن عدم وجود منصب رسمي القذافي من تجنّب المساءلة، وعند الضرورة، تحميل المسؤولية عن أية إخفاقات أو أخطاء حكومية إلى أولئك الذين يتقلدون مناصب رسمية.

مع ذلك، تركزت السلطة المطلقة دون شك في يدي القذافي؛ فعلى سبيل المثال، منح مرسوم الشرعية الثورية الصادر بتاريخ 9 مارس /آذار 1990 تعليمات القذافي قوة القانون وجعلها ملزمة لكافة المؤسسات، بما فيها المؤتمر الشعبي العام والمؤتمر الشعبي الأساسي.

وبالمثل، وفقًا للقانون رقم 71 لعام 1972، والمادة 206 من قانون العقوبات، يمكن إصدار حكم الإعدام بشأن تشكيل مجموعات أو منظمات أو روابط على أسس أيديولوجية سياسية مخالفة لمبادئ ثورة عام 1969 أو الدعوة إلى إقامة مثل هذه المجموعات.

تم تفويض قدر من الصلاحيات في الدائرة الداخلية للقذافي، المؤلفة أساسًا من عائلته وأصهاره؛ فعلى سبيل المثال، كان أحد أبناء القذافي، سيف الذي كان يُعتبر ولي العهد غير المعلنأكثر أعضاء هذه الدائرة الداخلية تأثيرًا؛ إذ تصرف كرئيس وزراء فعلياً ومن بين أبنائه الآخرين، كان خميس يقود كتيبة خميسالقوية، والتي يُزعم أنها كانت مسؤولة عن الأمن الشخصي للقذافي، بينما كان المعتصم يقود كتيبة أخرى قوية، وعُيّن مستشارًا للأمن القومي في عام 2007. عبد الله السنوسي، قائد المخابرات العسكرية، هو عديل القذافي، بينما ابنة اللواء الخويلدي الحميدي المفتش العام للقوات المسلحةمتزوجة من أحد أبناء القذافي.

وعلى مدار 42 عامًا، أقام العقيد القذافي نظامًا استبداديًا متفشيًا لحكم الفرد الواحد، تستّر خلف وفرة من الأجسام والمؤسسات الشعبية الهزيلة“.

وكانت اللجان الثورية تنظيمًا شبه عسكري أنشأه القذافي في عام 1977، وكانت مهمته حماية النظام“. وكانت اللجان مؤلفة من أفراد موالين للقذافي، مقسمين على 8 مجموعات من المغاوير تخضع بشكل مباشر لمكتب القذافي، وكانت تلك اللجان تمارس الرعب إذ كانت مسلحة ويُقدّر عدد أفرادها بنحو 60 ألفًا.

ومن أجل ضمان استمرار نظامه والدفع بحلمه المتمثل في الثورة الدائمة، اعتمد القذافي على جملة من الأدوات، وتكونت هذه الأدوات من أيديولوجيا فريدة غير قابلة للتغيير أو التعديل، وتأسيس مجموعة من شبكات السلطة غير الرسمية وتعزيز موقع عائلته وقبيلته في النخبة الحاكمة. وقد مكّنته إدارته الذكية وتلاعبه بهذه العناصر من البقاء في السلطة لأربعة عقود.

إن الشيء اللافت للانتباه هو بروز وتنامي دور اللجان الثورية كحركة قوية ساهمت في خنق كل الأصوات السياسية المعارضة، وقد تورطت في الفساد المالي والكسب غير المشروع.

وقد تم في عام 1988 تشكّل ما يُسمى بـ النوادي القبليةبهدف محاصرة المطالب المناطقية والمحلية الضيقة، التي بتراكمها، يمكن أن تتحول إلى حركات احتجاجية“.

وكانت هذه النوادي تهدف إلى مراقبة تحركات الشبان في المناطق القبلية واكتشاف بؤر التوتر الممكنة؛ وهي نفس الأهداف التي وُضعت لتنظيمات القيادات الشعبية والاجتماعية، التي تمارس دورًا تجسسيًا على مكونات المجتمع.

ولم يكتف القذافي بهذه السياسات، بل إنه أردف تلك بنشاط شخصي دؤوب، من خلال تنظيم سلسلة من الزيارات إلى المناطق والجهات، وذلك بعد القيام بدراسة مسبقة لكل زيارة والتعرف على خصائص الجماعة القبلية وتاريخها. وتقضي كل زيارة بتوقيع وثيقة عهد ومبايعة من طرف كل مجموعة قبلية يزورها.

ويقدر عدد القبائل الليبية بنحو 150 قبيلة متفاوتة الأحجام، وتنقسم بدورها إلى فروع قبلية. ولكن هذا العدد يتضاءل بسبب ارتفاع معدلات التحضر من جهة، والتداخل في تسمية المدن والمجموعات القبلية من جهة ثانية.

وقد عرفت الخارطة القبلية الليبية بعد ثورة سبتمبرتحالفات وانقسامات مهمة في علاقاتها بالنظام السياسي من جهة، وفي علاقاتها ببعضها وفي مجالات نفوذها من جهة ثانية.

يتميز المشهد القبلي في صورته السياسية الراهنة بنوع من الانقسام لدى القبائل وخاصة بالنسبة إلى المجموعات القبلية المتوزعة بين شرقي البلاد وغربها. وفق ما تبرزه الملاحظات التالية:

يتميز المشهد القبلي والمناطقي الليبي بالتحول المستمر، نتيجة عوامل عديدة منها حركية الأحداث ومنها المصالح والضغوط وغير ذلك (مثال ذلك أن قبيلة مسلاتة انتفضت إلى جانب الثوار يوم الخميس 4 رمضان 1432- 4 أغسطس/آب 2011).

ترتبط مواقف المجموعات القبلية والمناطقية على الوجه العام من النظام برصيدها العلائقي السياسي التاريخي معه إيجابًا أو سلبًا.

إن اصطفاف عديد من القبائل الليبية المهمة إلى جانب النظام السياسي، لا ينفي وجود معارضين أو مجموعات فرعية ساندت الثورة، ولا تزال، (ورفلة، ترهونة) كما أفرزت القبائل المعارضة أشخاصًا موالين للنظام، سرعان ما التجأوا إلى المدن التي يسيطر عليها النظام (مصراتة، الزاوية، الزنتان).

وفي مرحلة ما بعد الثورة 2011 أبصرت النور مئات من منظمات المجتمع المدني الجديدة، وتم تشكيل منظمات المجتمع المدني في جميع قطاعات الحياة في ليبيا تقريبًا، يتمتع هذا العدد المتزايد من منظمات المجتمع المدني بدور فريد ليؤديه في المجالات التالية

في ظل غياب سلطة الدولة، تستطيع منظمات المجتمع المدني أن تسد هذه الفجوة من خلال ممارسة بعض مسؤوليات الدولة ووظائفها.

خلّف انهيار نظام القذافي فراغًا في السلطة ليس فقط في طرابلس، ولكن أيضًا في المناطق النائية حيث تزيد الخطورة، وفي كثير من الحالات؛ فإن منظمات المجتمع المدني هي التي ساعدت على استعادة الأمن والنظام في هذه المناطق كحال مجلس حكماء ليبيا

إن عمل مجلس حكماء ليبيا والشورى هو دليل على مساهمة منظمات المجتمع المدني الممكنة في المصالحة الوطنية. عمل المجلس في مناطق تشهد توترًا في أنحاء ليبيا كافة، خاصة في جبل نفوسة؛ إذ (ركّزت المجموعة على نزع فتيل الصراع بين القبائل التي استخدمها القذافي للدفاع عن حكمه وجيرانهم المؤيدين للثورة، ومع غياب سلطة الدولة أساسًا في هذه المناطق، لعب المجلس دورًا فعالاً في إنهاء اشتباكات قبَلية قاتلة).

وقد أدت هذه الشبكة من منظمات المجتمع المدني دورًا حاسمًا في دفع عجلة بناء السلام وتوحيد ليبيا، ويتراوح عدد منظمات المجتمع المدني ما بين 1800 و1900 منظمة وجمعية منتشرة في كل ربوع ليبيا

وقد شهدت منظمات المجتمع المدني التي تأسست ونشأت بعد ثورة فبراير/شباط 2011 في ليبيا تسارعًا في العدد؛ ففي عهد النظام السابق كان هناك ما يقارب 90 إلى 95 جمعية، تم تسجيلها وفقًا لقانون الجمعيات الأهلية رقم (111) لسنة 1970 وقانون رقم (19) لسنة 2001 والذي كان يوصف بقانون كبت الجمعيات وتقييدها ووضعها في مسار النظام.

ويرى المتابعون لشأن الجمعيات في ليبيا أنه لضمان تعزيز دورها في عملية بناء الدولة الليبية يجب الارتكاز على محورين:

المحور الأول: هو الرغبة في الوجود والمشاركة في الحراك والمبادرات.

المحور الثاني: هو الوضع الرسمي التشريعي والقانوني.

يجب العمل بسرعة على وضع قانون عصري يكرس استقلالية المجتمع المدني لتفعيل دوره في التنمية والنهوض بالمجتمع مما يؤمّن استقلالية مؤسسات الدولة وعدم تبعيتها لأية جهة.

________________

مقالات مشابهة