د. رمضان بن زير
عود من جديد للحديث حول التطور التأريخي لمبدأ السيادة، في ظل ما تتعرض له بلادنا من انتهاكات صارخة لسيادتها، بسبب بعض من أبنائها الذين يتصدرون المشهد السياسي الليبي هذه الأيام، وما يحصل من تدخلات هذه الأيام من قبل بعض الدول الأجنبية في شأن داخلي يخص الليبيين ومثالاً واضحاً على ذلك المصرف المركزي>
حيث خرج علينا بعض السفراء يدعمون طرف على حساب طرف آخر وهذا يعد تجاوز ومخالف للقانون الدولي واتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية المبرمة في 18 أبريل عام 1961 التي تؤكد على أن مهام رئيس البعثة تمتيل بلاده في الدولة المعتمدة لديها، وحماية المصالح الخاصة لدولته ورعاياها في الحدود المقبولة في القانون الدولي العام.
الأمر المحزن المبكي أن نرى بعض المسؤولين في بلادنا يتبجحون بأن معهم الدولة س أو الدولة ص بالاستمرار في مناصبهم ولا تسطيع أي جهة ليبية أن تنهي أعمالهم.
أعود من جديد للحديث عن مبدأ السيادة في العصر الحديث أي مع بداية النهضة الأوروبية بعد تحررها من السلطتين الإمبراطورية الجرمانية والبابوبية الرومانية المقدسة وقيام حركة الإصلاح الديني.
وبهذا تعد نقطة البداية في ظهور القانون الدولي العام مع قيام معاهدة “وستفاليا” عام 1648، وترجع أهمية هذه المعاهدة إلى أنها سارت بين الدول جميعا، الملكية منها والجمهورية، الكاثوليكية والبروتستانتية واستمر الحال إلى أن جاء عصر الاكتشافات الجغرافية وظهور وحدات جديدة لم تكن معلومة لأوروبا من قبل، في القارة الأمريكية، وفي القارة الآسيوية، وفي القارة الإفريقية، فلم يصبح الأمر مقصوراً على أوروبا.
وقد دفعت هذه الأحداث والتغيرات إلى ظهور الدولة الحديثة علما بأن نظرية السيادة في تاريخ العلاقات قد ارتبطت باسم المفكر الفرنسي “جان بودان” الذي أخرج في عام 1577 مؤلفاً بعنوان “الكتاب الستة للجمهورية” وهو يتضمن نظرية كاملة في السيادة الذي يعرفها (بأنها السلطة العليا على المواطنين والرعايا والتي تخضع للقوتين)، ويمكن إجمال نظريته في أن العنصر الأساسي في تكوين الدولة هو وجود السلطة العليا التي تتركز فيها كل السلطات، فالمركزية في السلطات هي عماد الدولة، وهي تباشر سلطاتها على المواطنين من دون قيد يحدها باعتبارها صاحبة السيادة داخل الدولة.
هذه أهم ما جاء به “بودان” وقد تناولها من بعده المفكرون بالبحث والتعليق والإضافة والنقد، ونتيجة لتوالي الأحداث في نطاق العلاقات الدولية والتي كان أثرها عميقا في تطور نظرية “بودان” في القرون الثلاثة التي انطوت بعد ظهورها لنصل إلى “مرحلة السيادة في التنظيم الدولي” فصارت وحدة الجماعة الإنسانية حقيقية ملموسة، والانفصال التي قام في عصور التاريخ بين العالم الأوروبي المسيحي من جهة، والعالم غير المسيحي وغير الأوروبي من جهة أخرى بدأ يتبدد إلى حد ما.
إن الحاجات الجديدة تدعو إلى إيجاد مؤسسات جديدة تستجيب لها حتى لا تتخلف عن مصاحبة التطور، ولعله الأمر الملفت في ذلك العدد الكبير من المعاهدات الجماعية التي تدل على زيادة الوعي بأهمية الترابط بين الدول، وقد بدأت هذه المعاهدات الجماعية بتنظيم المصالح المشتركة للدول كالمعاهدات الخاصة بتسيير المواصلات، وتنظيم البريد، والمحافظة على الصحة العامة وغير ذلك إلى أن توج الأمر بظهور عصبة الأمم ثم أخيرا توقيع ميثاق هيئة الأمم المتحدة الذي نص على أن تعمل هيئة الأمم المتحدة وأعضاؤها للسعي في تحقيق مقاصدها وفقا للمبادئ التي ورد ذكرها في المادة الثانية من الميثاق “تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها”.
إذا حلننا نص هذه المادة نجدها توكّد على أن التنظيم الدولي يؤكد على فكرة “السيادة” على أساس المساواة بين جميع أعضاء الهيئة من الناحية القانونية بمعنى لكل دولة صوت واحد، وأن جميع الدول الأعضاء يتمتعون بالحقوق الكاملة في السيادة داخليا وخارجيا واحترام سلامة إقليمها واستقلالها السياسي. كما يجب على الدول الأعضاء في المنظمة تنفيذ واجباتها والتزاماتها الدولية.
والمساواة في السيادة تقضي بأن تكون كل الدول الكبيرة منها والصغيرة متساوية في الحقوق والواجبات في هيئة الأمم المتحدة.
للأسف هذا من ناحية نظرية والحقيقة فهناك فرق بين النظرية والتطبيق والعرض والجوهر فمبدأ السيادة الذي قررة ميثاق الأمم المتحدة ليس على إطلاقه، فالدول العظمى الخمس الأعضاء الدائمة فيه والمتمثلة في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، والصين، وروسيا، تتمتع بحق النقض أو الاعتراض على قرارات مجلس الإمن الدولي فإذا اعترضت أي دولة منها امتنع مجلس الأمن عن إصداره وصار القرار كأن لم يكن.
أين المساواة؟
فحق “الاعتراض” يعتبر قيداً هاماً يرد على مبدأ السيادة والمساواة، وهذا الحق شل من حركة مجلس الأمن، وأحداث “غزة كشفت عورات قادة العالم الحر وزيف ميثاق الأمم المتحدة الذي فُصِلَ على حجم الدول الكبرى “.
إن حق النقض معناه هيمنة وسيطرة الدول الخمس الكبرى وسلب لحرية الشعوب الأخرى فأي حق هذا؟.
إذا كانت الحرية والمساواة في السيادة حقا لجميع الدول فمن الواجب أن يعم هذا ويملكه أصحابه ولا يقتصر على خمس دول فقط وهذا له تأتيرات سلبية على مجريات العلاقات الدولية، وتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ فيما بينها.
لكن بالرغم من هذا نجد كل الدول تحاول إضفاء الشرعية الدولية على تصرفاتها بما يتمشى مع القانون الدولي واعترافها بقوته الإلزامية.
…
يتبع
***
د. رمضان بن زير ـ أستاذ قانون دولي، دبلوماسي سابق، ورئيس المركز العربي – الأوروبي لحقوق الإنسان والقانون الدولي
________________