يوسف شرقاوي
الفترة الخامسة (1969 ـ 2011)
وشهدت هذه الفترة تغيراتٍ مختلفة في السياسات المتعلقة بالمرأة، إذ سعت إلى تمكينها من المشاركة في بناء البلاد.
ومع ذلك، أكدت إيديولوجيا النظام الليبي على الاختلافات الجسمانية والبيولوجية بين الذكر والأنثى، وأنّ هناك دوراً لكل منهما. كما أنّ الأيديولوجية المجتمعية التي تحصر المرأة بدورها كأم جعل المرأة الليبية تعاني من حالة التقوقع حول الذات، دون أيّ فرص لتولي المناصب الإدارية، إلا لقلّة من النساء.
وأدى ذلك إلى جعل المرأة غير حاضرة في المقاعد الدولية والعالمية، وغائبة على المستوى المحلي.
الفترة السادسة (منذ 2011)
وترى الباحثة سعاد غميض أنّ هذه الفترة “أخرجت المرأة الليبية من الظلام إلى النور، وأثبتت وجودها ورفضها للظلم والاستبداد الذي ساد ليبيا 42 عاماً، ونشطت في الشارع الليبي وعلى وسائل التواصل الاجتماعي”.
ومع ذلك، فقد واجهت الناشطات الليبيات انتكاسات جديدة أواخر 2013، وتفاقمت عام 2014 مع الانقسامات السياسية والحرب الأهلية الدائرة في ليبيا.
وتعتبر الناشطة الليبية ليلى المغربي أنّ “الثورة أزاحت بعض القيود التي كبّلت النساء سابقاً، وكانت فرصةً لتثبيت الأقدام وانتزاع بعض الحقوق، نحو مجتمعٍ مدني خالٍ من التمييز على أساس الجنس”.
ومع ذلك، فإنّ صعود تيارات سياسية متشددة ومجموعات مسلحة إلى الواجهة الليبية حال دون استمرار الناشطات والنسويات الليبيات في نشاطهنّ، إذ صرن هدفاً لكل الأطراف.
ومن الجهات المستهدفة بعض أعضاء المجلس الوطني الليبي. وفي هذا الصدد، تقول الناشطة عبير إبراهيم: “مسلسل ترهيب واستهداف الناشطات الليبيات بدأ منذ أواخر عام 2013؛ ليس فقط عبر الجماعات المسلحة، بل حتى من المؤسسات الرسمية. كانت البداية مع دار الإفتاء، التي حاربت بشدة الاتفاقيات التي وقّعت عليها ليبيا، مثل سيداو وغيرها من القرارات والقوانين الداعمة للنساء”.
وأضافت أنه “كان هناك محاولات من المؤتمر الوطني لنزع هذه الحقوق، والتراجع حتى عن القوانين الموجودة من قبل، والتي تصب أيضاً في سياق حقوق النساء”.
وتم استهداف الناشطات والصحافيات الليبيات لإسكات أصواتهنّ وآرائهنّ وإخماد ما يقمن به من نشاطات. وتشمل القائمة نصيب ميلود كرفانة، وفريحة البركاوي، وسارة الديب، وانتصار الحصائري، وسلوى بوقعيقيص، والحقوقية حنان البرعصي اللواتي قُتلن بين 2014 و2020.
قوانين
شاع مصطلح “النسوية” في ليبيا في الأربعينيات من القرن الماضي. وكانت صالحة ظافر المدني أول من أدخلت هذا المصطلح إلى ليبيا في مقالة لها عن أوضاع النساء في ليبيا.
بيد أن النسوية الليبية، كمفهوم ونشاط، سبق ورود المصطلح بسنواتٍ طويلة، إذ تطوّر النشاط النسوي في المجتمع الليبي عبر التداخل مع الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وحين تم إقرار دستور الاستقلال عام 1951، ساوى بين الرجل والمرأة بصريح العبارة في عددٍ من مواده.
ووفقاً للمادة 11 من هذا الدستور، “الليبيون لدى القانون سواء وهم متساوون”. وتشير المادة 12 إلى أن “الحرية الشخصية مكفولة وجميع الأشخاص متساوون في الحماية أمام القانون”. ويمتد هذا التساوي ليشمل الحق في التعليم والعمل في المواد 14 و28 و30.
ومنذ عام 1954، بدأت المنظمات النسوية بالظهور رسمياً في ليبيا. وفي عام 1964، فجّر قانون الانتخاب الصادر حينها إشكاليةً قانونية تتعلق بالحقوق السياسية للمرأة.
وتشير الفقرة أ من المادة 5 إلى شرط أساسي في عضوية مجلس الأمة هو “أن يكون المرشح ليبياً من الذكور”. استبعد هذا النص الصريح المرأة من ترشيح نفسها آنذاك.
وبين عامي 2012 و2014، ظهرت منظماتٌ جديدة مثل “أين حقي؟” و”النساء قادمات” و”الأمازونيات الليبيات” و”اتحاد العمل النسائي” وغيرها من المنظمات.
بيد أنّ سيطرة المجموعات ذات التوجه الإسلامي على المشهد السياسي وتشكيل غالبية برلمانية تدعمها كتائب مسلحة عاد بتبعات سلبية للحركة النسوية في ليبيا. وتمثّل ذلك في التحريض على النسويات وملاحقتهنّ، ما أدى كما أسلفنا إلى ارتكاب جرائم قتل واغتيال بحق هؤلاء.
ومؤخراً، ثمة خطوات نحو تعزيز مشاركة المرأة في الحياة السياسية، إذ عُيّنت خمس نساء ليبيات في مناصب وزارية.
وترى إلهام إنديري، القانونية الليبية والناشطة في مجال حقوق المرأة، أن تولّي نساء لبعض المناصب الوزارية حدث استجابة لضغوط وتوجهات دولية، أكثر من كونه توجهاً داخلياً حقيقياً.
وفي هذا الصدد، تقول إنديري: “رغم كونه مُرضياً نوعاً ما، إلا أن من يشغلن مناصب عليا في ليبيا يخضعن للعبة المحاصصة أيضاً. وإنّ من يمتلكن رأياً مستقلاً يتعرضن إما للتهديد أو القتل والإخفاء القسري، مثل ما حدث للنائبة سهام سرقيوة، وقبلها سلوى بوقعيقيص وفريحة البركاوي وغيرهن الكثير”.
إذن، يعيق ردُّ الفعل الاجتماعي الشديد النساءَ الليبيات.
إذ يتم توجيه التهديدات والمضايقات إلى النساء اللواتي يغامرن بما يتجاوز أدوار النوع الاجتماعي التقليدية. ويكون ذلك بشكل مباشر وخاصة عبر الإنترنت.
ووفقاً لتقرير هيئة الأمم المتحدة عام 2020، فإنّ عدم مشاركة المرأة في العمليات السياسية الليبية هو أكثر من مجرد قضية تمثيل، بل يشكّل عائقاً عملياً أمام تحقيق تقدم ملموس.
وأظهرت الأبحاث أنّ مشاركة النساء في آليّات منع النزاعات وحلّها يقلّص من احتمال فشلها بنسبة 64% ويعزز احتمالات استمرارها بنسبة 35% لمدة 15 عاماً على الأقل، زيادة على تعزيزها الانتعاش الاقتصادي بعد الصراع.
آخر القوانين أو القرارات الليبية كان قرار حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، الذي يمنع النساء الليبيات من السفر دون مرافق (محرم) لهنّ، ما أثار غضباً وجدلاً حقوقياً وقانونياً.
ويشترط هذا الإجراء الحكومي على كلّ امرأة ليبية، في حالة السفر دون مرافق، تعبئة نموذج يتضمن أسئلة غير مبررة حول أسباب سفرها، وسبب غياب المرافق، وعدد مرات السفر السابقة.
على إثره، أصدرت منظمات وشخصيات حقوقية بياناً عبرت فيه عن رفضها للقرار، عبر المطالبة بإلغائه. وصدر البيان بعنوان “التعدي على حق النساء في حرية التنقل إهانة للمرأة الليبية وانتهاك مرفوض للدستور والقانون”، ووقعت عليه 12 منظمة حقوقية و119 شخصية.
العنف
تتعرض المرأة الليبية لأشكالٍ من العنف لا تُعد ولا تحصى، بما في ذلك السرقة والاعتداء والعنف الأسري وغير ذلك. وتمثل النساء 51% من النازحين الليبيين، لذا يواجهن مخاطر أكبر في الملاجئ ومخيمات النازحين بسبب الافتقار إلى الخصوصية والأماكن الآمنة والأمن الفعال والتحرر من التحرش.
وتمتد حالات العنف إلى الانتخابات. وأطلقت المفوضية العليا للانتخابات في 2022 فعاليات البرنامج التدريبي “رصد العنف ضد المرأة في الانتخابات بليبيا”. وقالت عضو مجلس المفوضية رباب حلب أن “ما تم جمعه من بيانات من خلال الاستبيانات رصد تراجع النساء عن المشاركة في العملية الانتخابية. وتوصلنا لنتيجة مفادها بأنّه كلما زادت نسبة مشاركة النساء في الانتخابات، زاد العنف الانتخابي”.
في السياق نفسه، تطالب جهاتٌ حقوقية وأهلية، منذ سنوات، الجهات التشريعية بسرعة إصدار قانون لحماية النساء، وتمكينهنّ من الدفاع عن أنفسهن. وتقول الناشطة الحقوقية بدرية الحاسي إن “مشروع قانون تجريم العنف ضد المرأة منظورٌ أمام مجلس النواب منذ العام الماضي، من دون أن يناقش بشكل فعلي. وتشكيل هذه اللجنة ليس إلا تجاوبا مع موجة الجدل التي صاحبت تعرض بعض النساء للقتل من جانب أقاربهن خلال الفترة الماضية”.
وتضيف الحاسي إنّ المشروع “متقدم وواع بحقوق المرأة، وبصور الانتهاكات، فهو يجرم العنف الإلكتروني، ومنشورات الكراهية على مواقع التواصل الاجتماعي، ويحدد آليات الحماية، ومسؤوليات المؤسسات الحكومية والقضائية تجاه صور وأشكال العنف”.
وازدادت الحاجة إلى إقرار المشروع في الأشهر الماضية، لاسيما بعد زيارة خبيرة حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة ريم السالم لليبيا نهاية عام 2022. ودعت السالم حينذاك السلطات في ليبيا إلى اتخاذ خطوات عاجلة لحماية جميع النساء والفتيات في البلاد من تفشي العنف وسوء المعاملة.
كما طالبت بتنفيذ تدابير الوقاية بشكل كامل وضمان توفير الحماية والدعم للضحايا. وقالت السالم في بيان لها: “لقد غادرت ليبيا وأنا أشعر بانزعاج شديد إزاء مستويات العنف الواسعة النطاق والممنهجة والخطيرة التي تواجهها النساء والفتيات في ليبيا. إن قتل الإناث أو قتل النساء لأكثر من سبب آخذ في الازدياد، ومثل ذلك أعمال العنف الجسدي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي في المجالين الخاص والعام”.
وبحسب السالم، فإنّ الانسداد السياسي وانعدام الأمن وعدم الاستقرار والتحديات التي يواجهها الحكم وسيادة القانون والأطر القانونية الإشكالية التي لا تتماشى مع التزامات ليبيا الدولية في مجال حقوق الإنسان كان من بين الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع المروع.
صحيحٌ أنّ القانون الليبي يُعتبر من القوانين الأكثر تقدماً في العالم العربي بما يخص حقوق المرأة، لا سيما أنه نصّ على المساواة بين الجنسين ومنح المرأة حقّ العمل والتنقل ومنع التمييز الجندري فيما يخص الأجور والحقوق الوظيفية. إلّا أنّ ما يواجه هذا القانون، وفقاً لناشطين وناشطات ليبيات بينهنّ منّة القاضي، هو النظرة والمعتقدات المجتمعية في ليبيا التي تتفوّق على القانون.
وتقول القاضي في هذا الصدد، إنّ هذه المعتقدات “تحارب المرأة وتجرّها إلى الخلف، وجعلت منها كائناً يتحرك في مربع مغلق حدّده لها الرجل يقتصر دورها فيه على تكوين الأسرة، حيث لا يمكنها السفر دون مرافق أو تقلد الوظائف السيادية، وغير قادرة على القيادة وتحملّ المسؤولية”.
_______________