الفيتوري صالح السطي

يصنف المجتمع الليبي حتى وقت قريب ضمن المجتمعات القبلية الرعوية غير المستقرة، واستمر على حاله حتى اكتشاف النفط وبدء مرحلة التصدير. وتتعدد مصادر الثقافة في ليبيا فمنها المؤثرات الجغرافية، والتفاعلات التاريخية، والمحددات الحضارية، والسياقات الاقتصادية والاجتماعية والخيارات السياسية.

لهذا فالثقافة السياسية ليست وليدة موقف معيّن أو لحظة زمنية قصيرة أو حدث سياسي عابر، بل هي نتاج تراكمات تاريخية وتراثية ودينية وسياسية واجتماعية وجغرافية، اجتمعت خلال فترات زمنية طويلة من خلال الممارسات والتجارب التي مرت بالمجتمع.

فإذا أخذنا في الاعتبار عددا من العوامل الأساسية كالمرجعية الفكرية والدينية للمجتمع، نجد أنه كغيره من المجتمعات العربية يتشابه معها في تأثير الروابط القبلية والدينية للمجتمع، مع الاختلاف الذي تفرضه خصوصية كل مجتمع، ومن العوامل الخاصة المؤثرة في مضمون الثقافة السياسية في ليبيا نجد:ـ

ـ الموقع الجغرافي

ليبيا كدولة ظاهرة حديثة، ولكن كجغرافيا سياسية قديمة جدا فهي معروفة من العصر الإغريقي فقد ذكرها (هيرودوت) في كتاباته، وأهميتها تأتي في موقعها وطول ساحلها البحري وانفتاح الأرض بسهولة التضاريس، واعتبارها نقطة وصل بين منطقتين مختلفتين في الثقافة والقيم والدين والسكان والانتاج الزراعي والصناعي والتقدم التكنولوجي، وغيرها.

وهذا الوضع الجغرافي انعكس على النشاط الاقتصادي الذي بدوره أثر في السياق السياسي في ليبيا، فطول الساحل شمالا وحدود الصحراء جنوبا، خلق نوعين من الخطر والخوف من المجهول لدى الليبيين، فخلال الحقب التاريخية أتت الأخطارمن الجانبين (الصحراء والبحر)، وهذه البيئة خلقت ثقافة الحذر والخوف من المجهول، وتحالفا لتكوين قوي ضد تلك الأخطار، وكونت ثقافة التعاون والتحالف من أجل .الآخرين من أجل تحقيق الأمن والقوة

ويظهر هذا التأثير في مراحل الحياة وتكوين التحالفات الداخلية بين القبائل فيما بينها وتعاونهامع القبائل العربية الأخرى، بالإضافة إلى أن للمناخ والبيئة أثرها على الأفراد، فارتفاع درجة حرارة الصحراء وقلة الغذاء وندرة الماء وتقلب المناخ زرعت ثقافة الصبر والتحمّل والتأنّي.

هذا الواقع فرض نوعا من التعامل بين السكان لمواجهة تلك الأخطار والمصاعب، وأسسا لتكوين تحالفات على مستوى القبيلة أو العشيرة.

 ـ الطابع القبلي

إن طابع التحالف بين القوى المجتمعية ضد الأخطار الخارجية نتج عنه التزام واتفاق في الوحدات الأساسية في المجتمع ابتداء من الأسرة حتى القبيلة، كونت قيم الطاعة والإمتثال لولي الأمر.

إن البيئة الصحراوية والتي تغطي معظم ليبيا أثرت على المجتمع بتكوين تجمعات في الإقامة والسفر والترحال فلا يمكن التنقل بصور فرادية إلا ما ندر، وتلك المجمعات تتسم بالسمع والطاعة الكاملة لشيوخ القبائل، وعدم معارضتهم كرّس

لظهور قيم واتجاهات الولاء والطاعة والخضوع لسلطة القبيلة، وتنفيذ ما يصدر دون إبداء الرأي أو المعارضة، والخوف من الخروج عليها والإيمان بعدم جدوى معارضتها، وانتشار قيم التواكل السلبية، فطالما أن الأمر كله بيد شيوخ القبيلة ولها الأمر والنهي وتحمل نتائجها وعواقبها فما جدوى المشاركة في قيادة القبيلة.

إن الأعمال التي تتم بين الأفراد داخل القبيلة أعمال مبنية على التعاون والتكافل وتقسيم الأدوار بين أفراد القبيلة رجالا ونساء، حيث تتم مقاسمة الأعمال التي يؤدونها من الرعي والحراسة وجلب الماء، الخ.

وتسود روح الإلفة والتعاون، ومن جهة أخرى يظهر جانبها السلبي وهي خاصية الارتجال وعدم التروي والاعتداد بالرأي الأوحد، وهي صفات تسيطر على الشخصية البدوية وتؤثر في سلوكها وتنعكس على الدولة من خلال تهميش دور المؤسسات، ولئن كانت هناك محاولة لإقامة دولة في ليبيا لكن اصطدمت بعراقيل وبقيت الإدارة ضعيفة أمام المؤثرات الأخرى.

 ـ المؤسسة الدينية

شكّل الاسلام منعطفا أساسيا في الثقافة السياسية العربية عموما والليبية خصوصا، فهو يعد من أهم رواسب الثقافة السياسية الليبية، والمؤشر الذي يسجل من خلاله العلاقات الوطيدة تاريخيا في ميدان التعبئة في الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ولعل من الواضح استشعار ذلك الارتباط القائم على توظيف الدين كعامل ثبات ضمن هوية المجتمع الليبي.

تظهر كثير من المناقشات بين القيم الدينية، والقيم التي تزرعها الأنظمة السياسية على النهج الديمقراطي (الغربي) مع محاولة بعضهم لإيجاد مسلك يربط بين الجانبين (السياسي والديني) في محاولة لربط القيم والتوجهات الدينية بقالب سياسي.

وفي هذا الجانب هناك من يرى تكوين مؤسسة دينية (فقهية) للرقابة ومتابعة التوجهات والقيم التي يدعوا النظام السياسي لتبنيها واتباعها وهذه المؤسسة يكون دورها توجيهيا، وبعضهم الأخر يرى بأنها محاولة لفرض المتشددين لحزمة من الأمور لصالحهم وتوجيه المجتمع نحو القيم والتوجهات التي يتبنونها، وعموما لا يمكن إسقاط القالب الأوروبي على المجتمعات الإسلامية، فيمكن أن تنقل ثقافة المشاركة والديمقراطية مع مراعاة اختلاف القيم والعادات.

ويعتبر الإسلام أحد المصادر الهامة التي ساهمت في تشكّل الثقافة السياسية في ليبيا، فالدِّين الرسمي في ليبيا الإسلام، والأغلبية على المذهب السني المالكي، مع وجود نسبة قليلة لا تتعدى 5% للمذهب الإباضي.

وخلال تتبع دور الدِّين وأثره على الثقافة السياسية في ليبيا نجد هناك تأثيرين متناقضين للدِّين في المجتمع الليبي:ـ

  • الأول: مساهمة المؤسسات الدينية من خلال المساجد والزوايا بتنمية ثقافة المقاومة للمستعمر وحماية البلاد والمحافظة عليها ومقاومة الثقافات الوافدة والتمسك بالقيم الدينية، وتوحيد الصفوف ضد الاستعمار، وحل الخلافات القائمة.

  • الثاني: هو هيمنة الدِّين على المجتمع بفرض ثقافة تقليدية، ورفض الحداثة لدرجة ما. في حقبة الثمانينات من القرن الماضي أُلغيت الجامعة الإسلامية وأُقفلت المعاهد الدينية واختلط الأمر على الناس، وهجمت على مجتمعاتنا أفكار وعقائد وطرق تكفيرية، فتلاشت خصائص المجتمع، وأصبح الناس يستفتون عبر الإذاعات من مذاهب فقهية شتى.

هذا التفكك الذي حصل نتيجة غياب المؤسسة الرسمية التي كانت تحفظ للمجتمع خصائصه، تولّدت عنه انقسامات خطيرة وظواهر شاذة أثرت على المجتمع وثقافته وولّدت قيم التطرف والتشدّد لدى بعض الناس، ولعل من أهم النقاط التي تحسب على النظاك السابق في الجانب الديني أنه ساوى بين كل ما هو ديني، ولم يفرّق بين الحركات الإسلامية بحيث يقبل الجيد منها ويحارب المتطرف بل حاربها جميعا فتوحدت ضده.

 ـ الحضر والريف

تعتبر مدينة طرابلس أكبر المدن الليبية وأكثرها تحضّرا، ويقلّ الحضر في مناطق الوسط والشرق، ويغلب عليها طابع البداوة، أما في فزان فهم أهل ريف، وسكان الريف أكثر من سكان المدن في ليبيا، والنمو السكاني مر بثلاث مراحل هي:

ـ فترة جمود وتناقص سكاني: وهي فترة الحروب (الحرب الكونية وبعد الانتفاضة في 201) وفيها انخفض عدد السكان، وهذا الانخفاض يرجع لموت عدد كبير من الليبيين، ونزوح وهجرة السكان داخليا وخارجيا لدول الجوار، وأغلب العائلات المهاجرة رجعت حاملة معها قيم البلاد التي أقاموا فيها وتقاليدها، وخاصة أن القبائل المهاجرة بني بينها وبين الأهالي المستقرين أواصر نسب وزواج.

ـ فترة نمو بطيء : وتشمل الفترة بعد الحرب الكونية الثانية، فبلغ معدل النمو 1.9%، ويرجع ذلك إلى الحرب العالمية التي كانت ليبيا إحدى ميادينها، إضافة إلى الحالة الاقتصادية وسنوات الجفاف التي مرت بالبلاد.

ـ فترة زيادة سريعة: وتشمل الفترة ما بعد صدور قرار الاستقلال واكتشاف النفط وقبل (فبراير 2011)، وفيها شهدت البلاد نموا مرتفعا يقدّر بـ 4%.

ـ السياق الاقتصادي

التطور الاقتصادي يؤدي إحداث تغيّرات في ثقافة المجتمع السياسية وتصنف إلى مرحلتين:

الأولى ـ مرحلة اكتشاف النفط وما بعده: فاكتشاف النفط ساهم في تغيّر الحالة الاقتصادية للمجتمع، وأدى للهجرة العكسية (من الريف للمدن)، وتحسين الحالة الاقتصادية لليبيين والرفاه وزيادة الدخل وتحسين الحالة المعيشية، ومجانية التعليم، والتأمينات الصحية، وارتفاع متوسط الأعمار وقلة عدد الوفيات، وزيادة نسبة المواليد.

ومع قلة السكان والتطور الاقتصادي والعمراني والاحتياج للأيدي العاملة جعل من ليبيا بلادا جاذبة للعمالة الوافدة، ومع وفود أعداد كبيرة منهم يفوق المليون، وتعدد جنسياتهم وأجناسهم أدى إلى التأثير في القيم المحلية، ويظهر ذلك جليا في منظومة قيم البلدان الأغنى.

الثانية: مرحلة تبني النظام السياسي مبادئ الاشتراكية في العام 1977، وما جاءت به من مقولات (سلبية) تم تطبيقها في ليبيا، كـ شركاء لا أجراءودعوة المواطنين بالسيطرة على المؤسسات الاقتصادية، وإعادة توزيع الثروة، ومركزية الإدارة الاقتصادية، وسيطرة النظام الشمولي. كل ذلك كان له أثره على الثقافة السياسية للمجتمع بشكل عام والشباب خاصة، ومن جانب آخر وعلى الرغم من أن ليبيا بلد غني وكبير المساحة قليل السكان إلا أن هناك شرائح واسعة من المواطنين كانت تعاني من ظروف اقتصادية صعبة.

ـ تأثير دول الجوار

لدور الجوار أثر كبير على المجتمع الليبي، وخاصة مصر، ومرحلة المد القومي بالنظر للتأثيرات أثناء فترة الهجرة وانتقال أعداد كبيرة من السكان لدول الجوار الجغرافي  عادة ما يكون التأثير أكثر في المناطق الحدودية باستثناء مصر، وذلك لمجموعة عوامل منها:

 الارتباط الاجتماعي أكثر بالمجتمع الليبي، فمعظم القبائل وخاصة في المنطقة الشرقية هي امتداد لقبائل عربية جاءت من مصر.

المد القومي ومساهمة جمال عبد الناصر في استقلال معظم البلدان العربية، وما قامت به مصر من أجل تحقيق حلم العرب بتحرير فلسطين والوحدة العربية.

مشاركة معظم المدرسين والخبراء المصريين على كل المستويات، في وضع المناهج وطباعتها وجلبها من مصر، وهذا له تأثيره بنقل قيم واتجاهات مجتمع آخر وتأكيدها، ومنها ترسيخ المبدأ القومي على الوطني.

العمالة المصرية العادية والماهرة المنتشرة في أغلب المناطق الليبية إضافة إلى تأثر الليبيين بالإعلام المصري والارتباط الاجتماعي والتصاهر، هذا جعل الثقافة السياسية للمجتمع الليبي أقرب إلى المجتمع المصري منه لدول الجوار الأخرى.

يتبع

***

د. الفيتوري صالح السطي ـ أستاذ مساعد بقسم العلوم السياسية ورئيس قسم العلوم السياسية ـ جامعة سرت

______________

المصدر: دراسة الثقافة السياسية والمجتمع الليبيـ مجلة شؤون اجتماعية ـ العدد 135 ـ (2017)

مقالات مشابهة