د. زكية بالناصر القعود
ثالثا: المكون التاريخي للمدن الليبية
مما يجب معرفته واستيعابه لفهم مكونات المدن الليبية يكون من خلال معرفة البعد التاريخي الاجتماعي والجذور التاريخية للمدن الليبية.
فالجانب التاريخي والبعد الاجتماعي يعطي فكرة عن مساهمة المدينة وارتباطاتها التاريخية ابتداء من التاريخ القديم وحتى نيل الاستقلال.
كما أن المعالم التاريخية لأي مدينة تعطي طابعا أصيلا وذاكرة غنية عن المدن الحديثة التي تطورت من ظروف تاريخية مختلفة، فطالما أُنشئت ونُظمت هذا المعالم التاريخية، على أسس من التناغم البيئي والاجتماعي.
فالمدينة التاريخية هي في الواقع – منذ نشأتها– نتاج لظروف بيئية واجتماعية وسياسية واقتصادية لسكانها، وهذا ما خلصت إليه جُلّ الدراسات التي تعرّضت إلى هذا المجال العمراني سواء من الناحية الهندسية أو الاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية.
أن تحولات البنية الاجتماعية سواء للمجموعات الاجتماعية في المدن في الماضي هي نتاج التحولات الاجتماعية في الحاضر، وهذه التحولات الاجتماعية تتعلق بدورها بالتطور العمراني الذي تشهده المدينة عبر التاريخ.
كما أن المجموعات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية وروابطها السلالية تشكّل النسيج الاجتماعي لسكان المدينة، بحيث تتأقلم المجموعات مع متطلبات الحياة المتطورة، وتستجيب للضغوط الديموغرافية المتزايدة، والاقتصادية والثقافية المستجدة.
حيث تجسد النسيج الاجتماعي لتك المدن والذي مع الوقت يشكل الهوية نمط الاقتصاد الزراعي الرعوي السابق، والنظام الحالي للمدن المعتمد بعضها على بعض وظيفياً.
ففي النظام القديم كان الرعاة الزراعيون يتنقلون بحرية على الأرض سعياّ وراء الكلأ والماء، ولم يكونوا يعترفون بأية حدود تفصل بين أجزاء وطنهم.
وفي النظام الحالي ولدت المدن والقرى من مختلف الأحجام من خلال نظام تراتبي متأصِّل للأماكن المركزية، التي ثبت أنها تلعب دوراً أساسياً في مسألة الهوية وقامت كل منها بدور البُوتقة التي ينصهر فيها السكان القادمون لها من كل مكان في ليبيا.
ودون الحاجة إلى الخوض في تفاصيل التطور التاريخي للمدن الأولى، يكفي القول إن اللبنات الأولى للإطار الحضري الحالي تمتد جذورها عميقاً في تاريخ ليبيا.
ومن الأمثلة على تجمعات حضرية بنيت فوق مواضع مدن تعود للتاريخ القديم والوسيط أو بجوارها نذكر: طرابلس، بنغازي، شحات، صبراته، زوارة، مصراته، زليتن، الخمس، درنة، طبرق، المرج، سوسة، طلميثة، توكرة، دريانة، وغيرها من المدن المنتشرة في جبل نفوسة ومنخفضات الصحراء الجنوبية مثل زويلة، جرمة، مرزق، غدامس وغات.
أما بعض المدن الأخرى، مثل سبها والزاوية والبيضاء فقد نمت كمراكز إقليمية مهمة في العصور الحديثة، بل إن البيضاء قد أصبحت في فترة ليست بعيدة عاصمة للبلاد، في حين أن بعض المراكز الحضرية الأخرى قد ظهرت كمنتج طبيعي لأنشطة استثمار موارد النفط، مثل موانئ تصدير النفط: مرسى البريقة وراس لانوف والسدرة.
إن المتمعن في المشهد الحضري في ليبيا، ولو لم يكن ذا معرفة واسعة بجغرافية ليبيا، سوف يلاحظ أن ذلك الانتشار الواسع للمواقع التي ذكرتها آنفاً يشير تقريباً إلى كل المدن والقرى المهمة، الكبيرة والصغيرة، التي تتكون منها ليبيا الحالية.
وثمة استمرارية ملفتة للنظر توجد بين مكونات الأنظمة الحضرية القديمة في المدن الخمس في جهة الشرق، والمدن الثلاث في الغرب، ونظيراتها الحديثة التي نشأت في المواقع ذاتها.
بالطبع واجهت المراكز الحضرية القديمة جملة من الظروف غير الملائمة من الجمود والانهيار، ومع ذلك فإن الإطار العام للمشهد الحضري الذي ورثته ليبيا من تاريخها الماضي ظل في مجمله ثابتاً، وحافظ على نظامه المكاني الأصلي.
ولعل من أبرز علامات هذه الاستمرارية الإبقاء على الأسماء الأصلية لكثير من المدن والأقاليم معرّبة مٌنذ الفتح الإسلامي.
وإذا ما نظرنا إلى هذه المراكز وظهيراتها باعتبارها نظاما مكانياً، فإنها تمثل مكونات تراتبية حضرية مرتبطة ببعضها البعض وظيفياً، ولعلها كانت كذلك في الماضي البعيد.
من نماذج ذلك مدينة بنغازي
كانت مدينة بنغازي قبل سنة من الفتح الإسلامي عام 642 ميلادي الموافق 21 هجري متكونة من أغلبية من البربر وبعض من ذوي أصول إغريقية ورومانية، وبعد ذلك قامت مجموعة من البربر المعتنقين للديانة اليهودية بتدمير مدن شمال أفريقيا ومن بينها برنيق (بنغازي) بدعم من بيزنطة التي خسرت الحرب ضد الفاتحين المسلمين.
وبعد هذا التاريخ أصبحت مدينة برنيق اطلال لمدينة مهجورة ولم تتم عودتها الا في القرن الخامس عشر للميلاد حيث استخدمها الليبيون القادمون من مصراتة كمحطة ونقطة تلاقي مع شرق ليبيا. وفي عام 1450 كان من بين التجار التاجر غازي الذي ارتبط اسم المدينة به.
فالمناطق وأسماء الشوارع في بنغازي تعرف بأسماء العائلات التي تقطنها أو أسماء الأولياء الذين دفنوا فيها، مثل سيدي خريبيش، سيدي حسين، سيدي سالم، سيدي الشابي وغيرهم .
وعقب وقوع المدينة تحت السيطرة العثمانية تدفق السكان المجاورون من مسلمين ويهود وسكنوا المدينة، وكان الثقل السكاني يميل لقبيلتي الكراغلة (ذات الأصول التركية) والجوازي (ذات الأصول العربية) حتى عام 1817 حين هُجّر عدد كبير من قبيلة الجوازي على يد الباشا يوسف القرمانللي ومن هنا بدأت التركيبة الديموغرافية للمدينة تتغير .
وأضحى التآلف بين شرائح وأعراق المجتمع البنغازي واضحاً الذي يعود بالأساس إلى أصول عربية وبربرية وتركية ويهودية ويونانية.
وبعد اكتشاف النفط عام 1964 وحدوث الطفرة الاقتصادية زحف الكثيرون من سكان الدواخل إلى المدينة في محاولة لكسب أرزاقهم وانتشرت العشوائيات وبنايات الصفيح ثم جاء عام 1967 الذي شهد طرد شريحة مهمة من سكان المدينة وهم اليهود الذين كانوا يشكلون أكثر من 90 بالمائة من التجار.
وشهد عقد السبعينيات تغييراً آخر في التركيبة السكانية عندما أزيلت العشوائيات وبنيت المساكن الشعبية التي شجعت المزيد من الوافدين إلى الاستقرار بشكل نهائي في المدينة.
…
يتبع
_______________
المصدر: مدونة “كُنَّاشّة” للكاتبة