الدولة المدنية الصالحة هي تلك التي تنحصر مهامها في إتاحة امكانية الحصول على الحقوق والحريات العامة والخاصة لجميع المواطنين مقابل إنجاز وظائفهم المكلفين بها اتجاه بعضهم البعض واتجاه نظام الدولة العام.
أما لو كانت على العكس من ذلك أو افترضناها جهازا سياسيا يفرض على جميع المواطنين جملة من الواجبات والأعمال والضرائب والإيرادات العامة دون أن يتيح لهم مجال الحصول أو المحافظة على حقوقهم وحرياتهم فهي ليست دولة ذات طابع مدني ؛ إنما هي مؤسسة استبدادية وقمعية.
أما أنماط الحقوق والحريات والواجبات والمسؤوليات التي يتم تطبيقها ضمن نطاق هذه الدولة ، فإنها لاتخضع لموازين عادات وتقاليد وأعراف المجتمع الأهلي انطلاقا من استقلاليتها نظريا وتطبيقيا وتعارض مفاهيمها مع ثقافته وعقائده وعاداته وأعرافه سواء كانت هذه القيم قبلية أو عرقية ، ونتيجة تعدد الطيف الاجتماعي عرقيا وقبليا ولتجنب نشوء الصراعات العرقية والقبلية ، اقتضت الضرورة القانونية والثقافية والسياسية إقامة دولة مدنية الاتجاه تتجاوز التعصب بكافة أنواعه؛ مرتكزة على دستور مدني يستوعب ثقافات الأطياف الاجتماعية كافة ؛ ويوحدها تحت ظل مفهوم المواطنة وسلوكياتها النبيلة.
طبيعة الدولة المدنية
الدولة المدنية في ظل المناخ الديمقراطي الحر؛ مؤسسة إدارية سياسية كبيرة ذات صبغة مدنية؛ فهي ليست سلطة ذات طابع عسكري يديرها رجال المؤسسة العسكرية الكبار كما هو الحال في العديد من بلدان العالم خاصة بعض الدول العربية والأفريقية التي شهدت وتشهد صراعات تكون دموية بعض الأحيان بين مختلف الطوائف والجماعات الأهلية للاستحواذ على السلطة.
ومنها الصراع الذي دار بين الجماعات العرقية في بوروندي بين التوتسي والهوتو، وصراعات أخرى ماتزال بعضها مستمرة في العديد من البلدان الأفريقية وأخرى توقفت بعد توقيع اتفاقيات لتقاسم السلطة والنفوذ.
ولن تكون الدولة مدنية الطابع والهوية حينما يتحكم بإرادتها السياسية وقانون عقوباتها أفراد الجماعات المسلحة والمليشيات، وهي ليست سلطة أهلية المعالم والوظائف يتصرف في اتجاهها العام أفراد المجتمع القبلي أو المذهبي أو المجتمع القومي أو العرقي، مثلما يجري الآن في العديد من بلدان العالم كبعض الدول العربية.
لنأخذ مثلا حديثا الصراع الدائر والمستمر في اليمن بين الحكومة اليمنية والحوثيين وهو صراع يتخذ صفة دينية وعرقية وسياسية مختلطة، يعكس مدى التخلف السياسي الذي تعيشه حكومة اليمن وأقطاب الصراع المتناحرين دمويا وسياسيا، فلو افترضنا بناء أسس دولة مدنية حديثة الوظائف في اليمن تحمي حقوق الجميع وفق مبدأ المساواة سياسيا واقتصاديا وثقافيا؛ لكانت بداية النهاية للأحداث الدامية المؤسفة التي يمر بها هذا البلد
فليس من الصواب تصور نشوء آلية أية دولة متمدنة تخضع إدارتها لأقلية أو أغلبية تهيمن على مقدراتها وعلى أجهزتها ووظائفها، أو أن وظيفة تنفيذ أعمالها يحتكرها حزب سياسي ينفرد بسلطتها أفراده من خلالها الاستبداد البيروقراطي أو عبر تبنيهم سلوكية استغلال السلطة لتلبية مصالحهم الخاصة.
على النقيض من ذلك يتسع فضاء الحريات ضمن الجغرافيا والسيادة السياسية للدولة المدنية ليشمل كل المواطنين دون استثناء بحسب الاستحقاقات الدستورية الرسمية والمشروعة.
وتمتاز الدولة المدنية عن سواها بالنسبة لتغيير سلطات حكومتها وموظفي هذه السلطات كلما انقضت فترة محددة ، وهذا السلوك السياسي المعتدل لاوجود له في ظل الأنظمة الدكتاتورية المستبدة ، ففي ظلها يعشش المستبدون والحاكمون مدى العمر، أو تنتقل السلطة بين سلالة العائلة المالكة بالتوارث، ويتم حرمان المواطنين خاصة الكفوئين من تداول سلطتها واستبعادهم وتهميشهم وتعطيل قدراتهم مادامت السلطة الاستبدادية تهيمن على مقاليد الحكم في البلاد.
نجد في البلدان الديمقراطية الكبرى حيث يتم تغيير رئيس الحكومة واعضاء حكومته كل أربع سنوات من خلال صناديق الاقتراع ؛ لإفساح المجال لشخص كفوء آخر لكي يتسلم منصب الرئاسة بالنسبة للنظام الرئاسي أما بالنسبة للنظام البرلماني فيتضمن تشكيل سلطة تشريعية جديدة تضم أعضاء جددا، وبعد ذلك يتم اختيار رئيس الحكومة بالتصويت حسب نظام الأغلبية البسيطة أو المطلقة .
ومن ميزات الدولة الحديثة ذات الاتجاه المدني لامركزية سلطة حكومتها بتحديد صلاحياتها ومنح الأقاليم أوالأجزاء المحلية صلاحيات اوسع مدى؛ لممارسة وظائف ضمن نطاق جغرافي محدد قد يكون محافظة أو إقليما، وهذا الاتجاه السياسي الإداري الحديث متبع في بعض دول العالم كالولايات المتحدة وسويسرا وكندا والهند والإمارات العربية المتحدة ودول أخرى وقد أثبت نجاحا باهرا.
سلطات الدولة المدنية ووظائفها
الدولة كيان واسع الطيف يتركب من مجموعة من الأجهزة الإدارية أو الوزارات تعمل وتنشط لممارسة جملة من الوظائف ذات الطابع المدني أو السياسي أو المختلط، يتولى تنظيم تشريعاتها السلطة التشريعية وتعمل السلطة التنفيذية على تفعيلها بموجب اللوائح القانونية بينما تحمي السلطة القضائية تطبيقاتها وتحافظ عليها من العبث والاعتداء من قبل المتمردين والجهال.
فالسلطة التشريعية تقترح وتشرع القوانين نظريا لإتاحة فرص تمتع المواطنين بحقوقهم وحرياتهم قانونيا دونما غبن أو هدر؛ أما السلطة التنفيذية فهي تهيئ الأرضية الخصبة لنشوء تلك الفرص؛ أما السلطة القضائية فهي بمثابة الدرع الحامي لهذه الحريات والحقوق أمام الخروقات والتجاوزات.
ومن مهام ومسؤوليات السلطة التنفيذية توفير الأمن الداخلي للبلاد من خلال وزارة الداخلية المدنية ، وممارسة الوظائف الدبلوماسية الخارجية مع بقية حكومات الدول والبلدان في العالم عبر وزارة الخارجية بالشكل الذي يضمن تحقيق المنافع الاقتصادية والسياسية والثقافية لمواطنيها بصورة عادلة.
ولأجل تنظيم مسؤوليات سلطات الدولة لتكون نافعة وحرة ومدنية؛ تم اعتماد مبدأ استقلالية كل سلطة لكن هذه الآلية لن تمنع هذه السلطات من الارتباط بين بعضها البعض بعلاقات خاضعة لجملة من الضوابط القانونية تفاديا للتداخل الوظيفي ؛ الذي تفقد بسببه سمات استقلاليتها.
التعدد الثقافي
في دولة التمدن بالضد من طبيعة الأنظمة السياسية الدكتاتورية تعمل الدولة المدنية على حماية التعددية الثقافية المرتبطة بالانتماءات الدينية والطائفية والقومية والعرقية لكنها لاتسمح بتحولها إلى كيانات سياسية تمارس الصراع مع بعضها البعض بهدف الاستحواذ على سلطة الدولة ووظائفها السياسية.
ذلك الصراع عادة ما يؤدي إلى ظهور الاستبداد بمختلف أنواعه وحرمان طيف جماهيري واسع من المواطنين من التمتع بحقوقهم الثقافية المشروعة، بينما تعمل الدولة المدنية على توفير فرص التعدد ثقافيا مرتكزة على مجموعة من الضوابط القانونية:
-
يتمكن كل الأفراد من الحصول على حقوقهم الثقافية وحرياتهم في التعبير عن معتقداتهم الدينية دون المساس بمعتقدات الاخرين.
-
كل الطوائف الدينية لها الحق في ممارسة طقوسها الدينية والمذهبية شرط أن لاتشكـل خطرا علـى الأمـن الثقافـي العام.
-
لكل أفراد قومية أو عرق أو أقلية الحق في التمسك بهويتهم والدفاع عنها بعيدا عن التعصب.
-
يتبنى كل أفراد القوميات والأعراق والمذاهب سلوكية المواطنة نظريا وتطبيقيا لتذويب كل العصبيات والحواجز في بوتقة واحدة.
إن الدولة المدنية ترتكز على قواعد الدستور بموجب مواثيق الشراكة في إدارة شؤونها مابين مواطنيها عبر آليات نظام تأسيس الأحزاب وأسلوب التنافس السلمي بين بعضها البعض، وليس الصراع العنيف بين الأغلبية والأقليات وبين الطوائف والقوميات أو بين الأحزاب السياسية البارزة بهدف الوثوب على السلطة بغية احتكارها، لأن الدولة بمجملها هي جهاز تحكيمي يضمن الحفاظ على حقوق جميع المواطنين بالتساوي حسب الكفاءة والاستحقاق، مع توفير هامش الرعاية اللازمة لبعض المواطنين الذين لايملكون مؤهلات تمكنهم من العمل، لأنها دولة الشعب والجماهير وملك صرف للجميع دون استثناء،.
هكذا ينبغي أن تكون الدولة عندما تبدأ نشوءها ونهوضها بواسطة مواطنيها المؤهلين سياسيا وقانونيا؛ هم فقط لهم الحق في بناء هيكلها حسب النظم القانونية الحديثة، أما المواطنون الذين لايمتلكون القدرات السياسية اللازمة التي تؤهلهم لتسلم المناصب الرفيعة فينحصر دورهم في تقديم الدعم السياسي لها انطلاقا من وضع الأشياء في مكانها المناسب تجنبا للفوضى.
…
يتبع
______________