علي المنتصر فرفر
رغم تعدد المؤشرات ذات العلاقة بالمشاركة السياسية، إلا أن المبدأ السائد دولياً يتمثل فى أرتباط هذه المشاركة بقضية المواطنة التى تعتبرها النظم الدستورية والقانونية أساساً لممارسة حقوق الانتخاب والترشح والانخراط فى المنظمات السياسية الحزبية التى تتنافس وتتصارع من أجل الوصول الى السلطة عبر العمليات الإنتخابية.
ولعل مسألة الإنتماء للمنظمات الأهلية والمهنية تمثل استثناءات مهمة، باعتبار تلك الأنواع من المنظمات مؤهلة لأن يكون لها دور بارز فى عملية التنمية السياسية وأن تكون لها أنعكاساتها المؤثرة على المواطنة والمشاركة السياسية معاً.
المواطنة بهذا المعنى هي هوية، أو هى إحدى الهويات التى ينتسب إليها الفرد، وهى تتضمن ولاءات سياسية متعددة، وليس بالضرورة هوية واحدة، بمعنى أن الإنتماءات السياسية قد يؤدّي تعددها الى تناقضها أو تعارضها أحياناً.
أضف إلى ذلك أن الضعف الذى قد يعتري هذه المنظمات، وفقدان قدرتها على الإستجابة لطموحات أعضائها قد يؤدي إلى انحسارها وتقهقرها أو إلى زوالها أحياناً، الأمر الذى يعني أن هوية المواطنة مسألة ديناميكية تتغير بتغير الظروف والأوضاع، وليست مجرد هيكل ثابت من الولاءات والإنتماءات.
وفى عصر العولمة برزت هياكل فوق وطنية جعلت مسألة الهوية الوطنية واحدة من الهويات المتعدّدة بشكل يجعل من الممكن الحديث عن مواطني الأسواق ومواطني الفيسبوك والتويتر، وغيرها من وسائط التواصل الإجتماعي، وهي حالات لا بدّ من رصدها وفهمها والعمل على إدراك آثارها ونتائجها بغض النظر عن أية أحكام قيمية بشأن الإيجابيات أو السلبيات المرتبطة بوجودها وأنشطتها.
لأن السؤال الأهم يتمثل فى كيف يمكن لنا أن نضمن وجود مواطنة فاعلة وديمقراطية قوية رغم تغير الظروف والأوضاع، ذلك أن التغير سنة بشرية ترتبط بالأفراد كأفراد، وبالهياكل والبنى التى يؤسّسونها فى مختلف الشؤون والمجالات.
هذه الكيانات، دولاً كانت أم تنظيمات، لا تحتل كل مساحات الحركة والتفاعل بين البشر، وكلما كانت هناك مساحات حرة، كانت هناك حركة، وكلما وجدت المساحات والحركة وجد الزمن الذى يعبره الأفراد مثلما تعبره الهياكل التى يؤسّسونها لخدمة مقاصد وأغراض قد تتغير هى الأخرى بتغير الأزمان.
إلا أن الزمن الذى يعبره الأفراد الطبيعيون محدود المدى، بينما تعيش الهياكل والتنظيمات فترات زمنية غير محددة رغم تغير محتواها من الأفراد الطبيعيين الذين يأتون ويذهبون وتبقى الهياكل والتنظيمات.
لذا تكون السمة الغالبة للهياكل التى من المفترض أن تجسد المواطنة هي سمة التعدد والتباين، مما قد يولد الشعور بالإرتباك والإنشطار والتجزيئية وسيادة حالة من عدم اليقين.
بيد أن الأمر إلإيجابي فى ذلك هو أن هذه الهياكل تتيح مجالات النشاط لفئات متعددة من الأفراد كما يمكن تقديمها كقرابين من أجل التطور إذا ثبت عجزها وعدم قدرتها على الإستجابة لحاجات الناس ورغباتهم، أي أنه من الافضل أن تموت هذه الهياكل بدلاً من أن يموت الأعضاء المنضوون داخلها أو الجمهور الخارجى المرتبط بعملها ونشاطها.
وفى ضوء هذا المنظور يمكن لنا تجاوز تلك الرؤى السلبية لمسألة المواطنة التى غالباً ما يثيرها أصحاب الرؤى النقدية، باعتبار تلك السلبيات مسألة عابرة ربما قادت إليها ظروف معينة، ولكنها سرعان ما تذوي وتنقشع مع تطور المستوى السياسى للأفراد والجماعات.
وهكذا يمكن لنا أن نفهم مثلاً ما يلاحظه البعض حول (مواطنة السوق ومواطنى الأسواق) كتلك التى رصدتها الباحثة فيرونيكا شيلد حول التأثير السياسي لبرامج الحد من الفقر التى اتخذتها الحكومة الإشتراكية فى تشيلى عام 1990، والتى حولت فى رأيها الطبقة العاملة الى مواطنة منضبطة سياسياً تسعى فى المقام الأول الى المشاركة الفاعلة فى السوق، ويصبح أفرادها أصحاب مشروعات إقتصادية بها هدفهم الأول والأخير ضمان بقائهم الإقتصادى مما يبرّر فى رأيها نعتهم بأنهم مواطنو الإستهلاك.
…
يتبع
***
علي المنتصر فرفر ـ أستاذ الإعلام في عدة جامعات ليبية
______________