رشيد خشانة

في خطوة غير مسبوقة انتقلت شخصيات من النخبة السياسية الليبية إلى واشنطن، حيث يستضيف «معهد الدراسات الدولية المتقدمة» بجامعة جون هوبكنز و«المجلس الأطلسي» في واشنطن، وفدا من «تنسيقية الأحزاب الليبية» لعقد لقاء تفاعلي مع عدد من السياسيين والخبراء الأمريكيين المختصين في الشأن الليبي. وتسعى أمريكا من خلال هذه الحوارات إلى إقناع الأطراف المدنية الليبية بضرورة وقف المشاحنات، والبحث عن قاسم مشترك يُنقذ البلد من التفكك. تأتي الزيارة بعد فشل سبعة موفدين أمميين خاصين، في الدفع باتجاه حل سياسي لأزمة مستمرة منذ العام 2014.

وبتعبير آخر فإن الحوار يرمي إلى البحث عن صيغة مبتكرة للخروج من المأزق الراهن، بإيجاد آلية ليبية/ دولية للوصول إلى انتخابات نزيهة وشفافة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو التالي:

مع من سيتحاور الأمريكيون وهم يعلمون أن مساحة الفعل التي يتمتع بها محاوروهم الليبيون أضيق من المساحة الواسعة التي تتحرك في إطارها الأجسام المسلحة، المُتحكمة في الوضع الميداني؟

ومع أن الحوار مع أمراء الميليشيات الرئيسية غير وارد، فإن إصرار القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء المتقاعد خليفة حفتر، على الترشح للانتخابات الرئاسية يقطع الطريق على أي حل توافقي للصراع.

تعديلٌ نوعيٌ في موازين القوى

أكثر من ذلك، نلمح في الجهة المقابلة دورا روسيا متناميا، منذ أن انعقد تحالف وثيق بين موسكو واللواء المتقاعد خليفة حفتر، في أعقاب أول زيارة أداها الأخير إلى العاصمة الروسية العام 2017.

واستطاع الروس، من خلال إرسال مرتزقة، من الشركة الأمنية «فاغنر» بقيادة مؤسسها، المغدور يفغيني بريغوجين، إسناد قوات حفتر أثناء هجومها على طرابلس، اعتبارا من 4 نيسان/ابريل 2019.

وأحدث دخول مرتزقة «فاغنر» إلى الحرب تعديلا نوعيا في موازين القوى العسكرية لصالح حفتر، المدعوم من الإمارات ومصر وفرنسا، ما اضطر الحكومة السابقة، برئاسة فائز السراج، للاستعانة بتركيا من أجل منع سقوط العاصمة طرابلس في أيدي المتمردين.
في هذا السياق يشرح الباحث الاستراتيجي صاموئيل رماني، تحت عنوان «التحول الاستراتيجي الروسي في ليبيا: مغامرة رابحة؟» بعضا من خطط روسيا في ليبيا، وذلك في موقع «المعهد الملكي للخدمات المتحدة» الذي يعد أقدم مركز أبحاث مختص في الشؤون العسكرية والأمنية في العالم.

ويقول رماني إنه في 15 نيسان/ابريل من العام الماضي، سافر رئيس الوزراء الليبي عبدالحميد الدبيبة إلى موسكو في أول زيارة له. وخلال زيارته، أجرى محادثات مع كبار المسؤولين الروس، بمن فيهم رئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين، ووزير الدفاع سيرغي شويغو، وسكرتير مجلس الأمن القومي نيكولاي باتروشيف، حول موضوعين هما الحوار الليبي الداخلي، والاستثمارات في قطاع الطاقة.

ولوحظ أن شويغو أشاد بالشعب الليبي بعد لقائه الدبيبة، ووصفه بأنه «صديق لروسيا». وحض على استئناف «التعاون الكامل» بين وزارتي دفاع البلدين، فيما تعهد الدبيبة بـ«بناء جسور جديدة» مع روسيا، مُشددا على قدرة موسكو على لعب دور رئيسي في الاقتصاد الليبي.

للوهلة الأولى، يُثير الطابع الودي للقاء الدبيبة مع المسؤولين الروس الدهشة، فقد قدمت روسيا دعما ماديا واسعا للهجوم الذي قاده حفتر على طرابلس، كما أسلفنا.

ويوضح رماني أن روسيا قدمت دعما ماديا واسعا للهجوم الذي قاده اللواء حفتر على حكومة الوفاق الوطني، التي كانت تتخذ من طرابلس مقرا لها، والتي خلفتها حكومة «الوحدة الوطنية» بقيادة الدبيبة.

وفي 12 آذار/مارس الماضي، وصف الدبيبة المرتزقة الأجانب، ومن بينهم متعاقدون عسكريون من مجموعة «فاغنر» الروسية، بأنهم «طعنة في ظهرنا وتهديد للسيادة الليبية».
ومنذ تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في 9 آذار/مارس 2021 احتضنت روسيا تلك الحكومة المؤقتة، وأعربت عن دعهما لخطط ليبيا إجراء انتخابات عامة في كانون الأول/ديسمبر المقبل.

مع ذلك، تحتفظ روسيا أيضا بصلات متينة مع جهات فاعلة، مثل ميليشيا «الكانيات» وسيف القذافي، للاستفادة منها في حال ضعُفت سلطة حكومة الوحدة الوطنية.

وقد تسمح استراتيجيا التوازن هذه باستمرار نفوذ روسيا في ليبيا، لتظل حصنا منيعا أمام محاولات التغيير السياسي على الأرض. بل ربما تجلب للشركات الروسية المملوكة للدولة، عقودا مربحة، خصوصا في مجال إعادة الإعمار.

وبالتوازي مع إقامة علاقات متينة مع حكومة الوحدة الوطنية، حافظت روسيا على علاقاتها مع الشركاء الآخرين في ليبيا. وأرسلت موسكو الآلاف من مرتزقة «فاغنر» السوريين إلى شرق ليبيا، كما منع الروس إدراج محمد الكاني، زعيم ميليشيا «الكانيات» في القائمة السوداء للأمم المتحدة، بدعوى عدم وجود أدلة كافية على تورطه في قتل مدنيين.

ويشكل استمرار وجود الميليشيات داخل المدن، عنصر تفجير لمعارك عسكرية بين الفينة والأخرى، مُخلفة خسائر بشرية ومادية مُعتبرة، أسوة بما شهدته مدن طرابلس والزاوية والجميل وغريان وسواها.

وفي تشرين الأول/اكتوبر الماضي، اندلعت معارك عنيفة بين مجموعات مسلحة في غريان (جنوب غرب طرابلس) أدت إلى إغلاق مداخل المدينة وإصابة عشرات من الجانبين. كما اندلعت الخميس الماضي معارك في مدينة الجميل أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى وحرق مركبات، ما استدعى انتقال نائب رئيس الأركان صلاح النمروش إلى المدينة لإعادة الهدوء إليها، بالتنسيق مع وجهاء الجهة وأعيانها.

إفلات من العقاب

بالرغم من تشديد النائب العام الصديق الصور، على ضرورة ملاحقة المتورطين في تلك الأحداث، وإنفاذ القانون في المدينة، ليست هناك حاليا قوة قادرة على التحقيق في تلك الحوادث ومعاقبة المسؤولين عنها، بمن فيهم النائب العام، الذي لا تدعمه أجسام صلبة.

وهذا يعني أن أي خطوة للتمهيد لانتخابات عامة، ينبغي أن يسبقها ضبط الأجسام المسلحة وإخراج الأسلحة الثقيلة والمتوسطة من المدن والمناطق السكنية.
ومن أجل مجابهة تزايد الإنفاق العمومي، تسعى ليبيا لتحقيق زيادة معتبرة في إنتاجها من النفط والغاز.

وأكد رئيس «المؤسسة الوطنية للنفط» فرحات بن قدارة، أن المؤسسة وضعت خططا وبرامج لتحسين الإنتاج من النفط والغاز، وزيادة كمياته، مع تطوير الاعتماد على الطاقات المتجددة، للحد من استهلاك النفط والغاز في توليد الكهرباء. وفي السياق استؤنف أخيرا تصدير غاز البروبلين من ميناء طبرق إلى الأسواق العالمية، بعد توقف استمر أكثر من 12 عاما.

ودائع مجمدة

وتملك ليبيا أيضا 67 مليار دولار من الصناديق السيادية الموزعة على عدة بلدان، لكنها مُجمدة من قبل الأمم المتحدة منذ 2011. وزيادة على ذلك، تملك ليبيا أكبر احتياطي من النفط والغاز في أفريقيا، ويُقدر احتياطيُها بـ48 مليار برميل.

أما في مجال الغاز الصخري، فهي تتبوأ الرتبة الخامسة عالميا باحتياطي يُقدر بـ26 مليار برميل. وهي تملك كثيرا من المعادن الثمينة من ذهب ويورانيوم، خصوصا في الجنوب، وهي احتياطات غير مُستثمرة إلى حد الآن.

وفي ظل اقتصاد ريعي، تحتكر الدولة مصادر الدخل والثروة، في غياب عقد اجتماعي يُنظم توزيع الثروة بالقسطاس.

وشكل هذا الوضع أحد الدوافع الرئيسية لانتفاضة 2011 التي استهدفت الإطاحة بالنظام الريعي، السائد منذ العام 1969 تاريخ استيلاء الضباط الصغار على الحكم. ويتفق الخبراء على أن الفساد وغياب الشفافية المنتشرين في مختلف دواليب الدولة وفي المجتمع، يشكلان عائقا كبيرا أمام تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لليبيين. بهذا المعنى تتمحور الصراعات السياسية حول من يسيطر على السلطة السياسية، ومن يوزع الريع، واستطرادا من يملك توزيع الثروة.

خاصرة رخوة

ويُعتبر غياب الشفافية وضعف الحوكمة الخاصرة الرخوة للبنيان الاجتماعي والاقتصادي في ليبيا، وهو يشكل أحد الدوافع التي تحمل قطاعات من النخبة العلمية على الهجرة والإقامة في الخارج.

وزاد الوضعُ عُسرا مع تنامي العنف، والاغتيالات السياسية في السنوات الأخيرة، خصوصا في الشرق، مركز نفوذ خليفة حفتر، حيث قُتل وزير الدفاع الأسبق مهدي البرغثي وأفرادٌ من أسرته وحراساته بعد اعتقالهم، على أيدي قوات حفتر في بنغازي.

كما قضى أخيرا في السجن الكاتب والسياسي الشاب سراج دغمان جراء التعذيب، بعد مشاركته في ندوة فكرية ببنغازي. ورفضت السلطات تمكين أسرته من إلقاء النظرة الأخيرة على جثمانه قبل دفنه.

وبالرغم من شدة الخلافات بين سلطات الشرق وسلطات الغرب، والنمو الاقتصادي السلبي طيلة السنوات الثلاث الأخيرة، تفاجأ المراقبون بأن الحالة الاقتصادية في ليبيا أفضل من دول الجوار، فليست هناك قروض متعلقة بليبيا لدى المؤسسات المالية الدولية، خلافا لبلدان مثل مصر والمغرب وتونس.

وربما كانت الانتخابات ستكون انطلاقة جديدة، بعد عشرة أعوام من الحرب الأهلية، لو أجريت في ظروف طبيعية، ولم تؤجل في كانون الأول/ديسمبر 2021.

ولم تكن تلك الانتخابات الأولى التي يتم إرجاؤها إلى تاريخ غير محدد، إذ كان مقررا إجراء أول انتخابات رئاسية في تاريخ ليبيا يوم 10 كانون الأول/ديسمبر 2018. غير أنها أرجئت إلى أوائل 2019 وكانت ستعقُبُ الانتخابات الرئاسية، انتخاباتٌ نيابيةٌ كان مفترضا أن تُجرى في مُفتتح 2022 قبل أن تُؤجل بدورها إلى تاريخ غير مُسمى.

ومن شأن هذه التأجيلات المتكررة هدم الثقة بين جمهور الليبيين والمؤسسات السياسية، وتنامي الغضب على الطبقة السياسية برمتها. من هذه الزاوية يمكن فهم قلة الحماسة لمبادرة الموفد الأممي المستقيل عبد الله باثيلي، التي وصفها البعض بأنها تقاسم للكعكة بين خمسة من أمراء الحرب (رئيس مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة والمجلس الرئاسي والحكومة المؤقتة وحفتر) وهم الذين عطلوا الحل السياسي حتى اليوم.

مجلس رئاسي هزيل

في المقابل هناك من يرى أن خلف ستار هذا الجدل الليبي/الليبي يقف ممثلو دول لا تريد حلا سياسيا في ليبيا. كما يُقلل آخرون من الوزن السياسي والاجتماعي لبعض الأطراف المدعوة للمشاركة في الاجتماع، أسوة بالمجلس الرئاسي، الذي لا حول له ولا قوة في هذه المعركة السياسية.

واللافت أنه كلما بدا الصراع في ليبيا متجها نحو الحلول السلمية، إلا واندلعت شرارات معركة جديدة، حول خلافات قديمة، من أبرزها الخلاف على المرجعية القانونية لإجراء الانتخابات.

من هذه الزاوية أتت مبادرة الأمم المتحدة تلك، لتعود بالجدل إلى المربع الأول، أي إلى سؤال الشرعية، بينما يشترك جميعهم في أن صلاحيتهم منتهية منذ زمن.

_____________

مقالات مشابهة