خيري عمر

على مدى المرحلة الانتقالية في ليبيا، قدّمت التياراتُ الدينية تصوّراتٍ متباينة تجاه السلطة والدولة.

وتُشيرُ خبرات الإخوان المسلمين، التيارات الجهادية والسلفية المدخلية، إلى حالاتِ صعودٍ وتراجع، ارتبطتْ بعوامل تنظيميةٍ وفكريةٍ، ما يثيرُ النقاش بشأن اتجاهات التأثير المستقبلية، حيث تبدو أهمية تناول سياسات الإسلاميين، ومدى مساهمتها في التضامن في بناءِ الدولة، وتساعد مناقشة التغيّر في فاعليةِ الإسلاميين على مدى سنوات ثورة فبراير (2011) في الاقتراب من القدرةِ على سدّ الفراغ الناجم عن تآكل الدولة والمساهمة في ضبطِ العلاقة بين المكوّنات السياسية.

وقد شكّل تَغيّر الحالة التنظيمية أهم مسارات التقدّم والتراجع في دينامياتِ الإسلاميين، ويساعد تحليل التفاعلات الداخلية وملامح التركيبة التنظيمية في الاقتراب من مدى المرونة والقدرة على التكيّف مع التغيّرات السياسية.

جماعة الإخوان المسلمين ومكوّناتها

وبجانب الظهور العلني لحركة الإخوان المسلمين الليبية في 2011، تشكّل حزب العدالة والبناء خليطاً من أعضاء الجماعة وإسلاميين مستقلين، ليطرحَ مساريْن لتحليلِ مسيرة الحزب؛ (أ) تأثير اختلاف مرجعية العضوية على التماسك الداخلي و(ب) حدود العلاقة بين الجماعة والحزب.

في هذا السياق، دخلت الجماعة في موجةِ استقالاتٍ:

ـ بدأها رئيس مجلس الدولة، خالد المشري، في 26 يناير/ كانون الثاني 2019.

ـ كما استقالَ فرع مدينة الزاوية، في 13 أغسطس/ آب 2020، استجابةً لتسهيلِ المسار الانتقالي، وصولاً إلى الدولةِ المدنية.

ـ تقدّم أعضاء الإخوان المسلمينفي مصراتة، 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، باستقالةٍ جماعية، تمهيداً للخروج من المشهد السياسي، وإثبات أنّ الجماعة ليست عقبة في طريق الثورة.

ووفق البيان، تأسّس الموقف على مراجعاتٍ وتقييماتٍ أجرتها الجماعة في 2015 بشأن مستقبل التنظيم وتفضيل المصلحة العليا للوطن، والخروج من مماطلةِ القيادة في تنفيذ المراجعات.

تشاركت البيانات الثلاثة في الربطِ ما بين الاستقالة وفرصة تصحيح المسار السياسي، ما يعكس اتّساع الفروق ما بين مكوّنات الإخوان المسلمين، بطريقةٍ أقرب إلى المبادرة والالتزام بالمُراجعات الداخلية.

وبعد مشوارٍ من التململِ الداخلي، استجابتْ الجماعة لمراجعاتِ المؤتمر العام العاشر، وتحوّلت إلى جمعيةٍ أهلية تحت اسم الإحياء والتجديد، في مايو/ أيار 2021، ولكن تحت ضغط حملات التشويه المستمرّة منذ حقبة معمر القذافي، من دون التخلّي عن أهداف الجماعة.

وفي الثاني من مايو/ أيار 2021، اتّخذت الجماعة قرارَ التحوّل إلى جمعيةٍ أهلية، مؤسِّسةً موقفها على خدمةِ المجتمع من منظورِ العمل العام لأجل الإصلاح الاجتماعي.

كما رأت أنّ حملات التشويه المستمرّة عشر سنوات كافية لترك الساحة السياسية، على أن يقتصر نشاطها داخل ليبيا.

ورغم الجدل بشأن تبعيّتها لجماعة الإخوان المسلمين العالمية (التنظيم الدولي)، لم يتّضح وجود قطيعة مع فروع الجماعة الأخرى، وخصوصاً مع وجودِ إشاراتٍ إلى استمرارِ الجمعية على أهداف الجماعة، ليكون التحوّل شكلياً.

فقد واجهتْ الجماعة بيئةً غير مُواتية للاستمرار في الظهور تحت اسم جماعة الإخوان المسلمين. ولذلك تظهر تصرّفات المنتمين للجمعية امتداداً للنهج السابق في نُدرة البيانات عن شاغلي المواقع الإدارية.

شكّل تَغيّر الحالة التنظيمية أهم مسارات التقدّم والتراجع في دينامياتِ الإسلاميين

وفي سياقِ التحوّلات الداخلية، ظهرتْ هشاشة العدالة والبناءمع تغيّر الوضع السياسي، وتحوّل الجماعة إلى جمعيةٍ أهلية.

تتابعتْ التقلبات الداخلية على مرحلتين:

كانت الأولى في الاختلاف على مسارِ اتفاق الصخيرات في 2015، وترتّب عليها انسحاب أعضاء عديدين.

أمّا الثانية، فكانت بعد انعقاد المؤتمر العام للحزب في 19 يونيو/ حزيران 2021، حيث ظهرت موجة استقالاتٍ من المناصب العليا، لتمهّدَ الطريق لتأسيسِ حزبٍ جديد، جرى إشهاره في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 تحت اسم الحزب الديمقراطي.

وتعكس هذه الخطوات انقساماً مُركّباً، فقد تلازمت باستقالاتٍ من الجماعة والحزب، بحيث يمكن القول إنّ السنوات السابقة لم تعمل على دعمِ التماسك الداخلي لحزب لعدالة والبناء. وإزاء هذه الوضعية، تجنّب الحزب الدخول في صدامٍ مع حكومة الوحدة وتيار المفتي، أو الجماعات المسلحة.

ونظراً إلى شيوعِ الاستقالات، راجعتْ حركة الإخوان العلاقة بين الجماعة والحزب على أساس تقسيم العمل أو الفصل الوظيفي، لتقومَ الفلسفة التنظيمية على النظر إلى الجانب السياسي نظرة المتفرجمن دون تبنّي رأي واضح، وأرجعت موقفها إلى الحياد طبقاً لنظم الجمعيات الأهلية والرغبة في الخروج من تعقيدِ العمل السياسي لكثرة متغيّراته.

وتعتبر حركة الإخوان الفصل بين الدعوي والسياسي خطوةً لإعادة تعريف دورها. ووضع الميثاق، النظام الأساسي لجمعية الإحياء والتجديد، إطار التحوّل إلى مؤسّسة حضارية والبناء الاجتماعي“.

لا تتعلّق التوجّهات الجديدة بالانسلاخ عن الإخوان المسلمين، ولكن بتقديم صيغة مُخفّفة لمفهومِ الشمولية، من وجهةِ تقسيم العمل والابتعاد عن قضايا الصراع والتغيّرات السريعة والتركيز على الحاجات الإصلاحية والأخلاقية، بحيث تكون نسقاً مؤسّساً لعلاقاتها الداخلية، بحيث يكون المجال السياسي هامشياً، بقدر الحاجة لبقاء الجمعية مؤسّسة اجتماعية.

وتفويض ما تبقّى منه للحزب السياسي، ليقتصرَ دورها في التنبيه على الإصلاح ومكافحة الفساد.

على أيّة حال، يصعُب تحييد تأثير المنظمات الأصلية وتلك المنبثقة عنها، حيث يتداخلُ ميراث الخبرة التنظيمية والعلاقات الشبكية. وفي هذه الجزئية، تبدو علاقة التأثير المتبادل بين حركة الإخوان وحزب العدالة والبناء طبيعية وتلقائية.

وتعكس خريطة المرشّحين لرئاسة الحزب مدى التداخل بين الجماعة والحزب، بحيث تتراجع فرصة ترشيح مستقلّين، فيما يحتكر المنتمون للإخوان القدرة والرغبة في الترشيح.

ورغم تحوّل الجماعة لجمعية، ظلّ وجود الإخوان المسلمين مُهيمناً على إدراكِ السياسيين، فبعد سنة من تحوّلها، أشار رئيس الحكومة، عبد الحميد الدبيبة، إلى دور الجماعة في زعزعةِ حُكمه، ما اعتبرته الجمعية نوعاً من تحميل المسؤولية عن كلّ المشكلات.

لم يكن التحوّل مبادرة تصحيحية، بل استجابة للضغوط الداخلية والخارجية، فقد تلازمت حالات الانشقاق مع ظهورِ مشكلاتِ المؤسّسية، فلم يكن هناك خريطة واضحة لأوراق الحزب الرسمية أو تسليم لملفات العلاقات السياسية والمالية، باعتبارها رأس المال السياسي للحزب، في وقتٍ كان يتم فيه الإعداد لتنظيم آخر، ترتّبت عليها حالات انشقاق محدودة.

يتبع

***

خيري عمر ـ استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .

________________

مقالات مشابهة