علي المنتصر فرفر
لربما ولَى زمان المثالية السياسية الذى عبّر فيه مفكر مثل مونتسكيو عن الوطنية العالمية بقوله (إننى أحب وطنى لا لأنه المكان الذى ولدت فيه، ولكن لأنه جزء من العالم الذى أنتمى إليه) وبقوله أيضاً (لو كنت أعلم شيئاً ما يمكن له أن يخدم وطني، ولكنه يهدم وطناً آخر، لم أكن لأقترح هذا الشئ على حكومة بلادي فرنسا، لأنني إنسان أولاً وفرنسى ثانياً، فأنا إنسان بحكم الضرورة، ولكننى فرنسي بمحض الصدفة).
كما أنه لم يتكرر نمودج دستور الثورة الفرنسية لعام 1793 الذى كان يتيح لكل شخص أجنبى بالغ أقام فى فرنسا لمدة عام واحد الحصول ليس فقط على الجنسية الفرنسية، بل أيضاً الحصول على جميع حقوق المواطنة بما فيها حق الإنتخاب، وتقلصت حقوق الأجانب فى أغلب بلدان العالم لكي لا تتعدى بعض الحقوق الإجتماعية.
بيد أنه فى عصر الهجرات الجماعية الضخمة التى تعبر الحدود الوطنية بإذن وبدون إذن لا بد للمجتمع الدولي أن يعيد فهم مسألة المواطنة وتفسيرها بما ينسجم مع هذه المعطيات التى تفرض نفسها رغم كل الجهود التى تبذلها كثير الدول الوطنية فى مجابهتها أو على الأقل الحد منها.
وهو ما يفرض مراجعة العمل السياسى لأننا ـ مثلما لاحظ أرسطو منذ زمن بعيد ـ نمارس السياسة من أجل صون حياتنا كبشر، لكن ممارسة السياسة ليست هي الفضيلة التى نصبح من خلالها بشراً.
أي أن الامر يتطلب ممارسة سياسة جديدة على المستويات الوطنية والدولية تعكس القيم الإنسانية لمسألة المواطنة.
أمّا أساليب القهر والقمع والتموضع والتقوقع وتشييد الجدران العالية ونصب الأسلاك الشائكة، فهذه لا يمكن لها أن تشكل حماية للوطن ولا للمواطنين، لأن الحماية الحقيقية تتمثل فى الممارسة السياسية الواعية من أجل تحقيق التعامل الإنسانى الأمثل مع مثل هذه الظروف.
واستناداً إلى ما طرحه عالم الإجتماع الأمريكي أتزيوني فى إطار دراساته حول قضايا النزاع والسلام، فإننا يمكننا إستعارة النموذج الذى أبرزه لدراسة العلاقة بين السلطة والنشاط البشري داخل مختلف التنظيمات لكى نستطيع من خلاله النظر إلى المواطنة فى ضوء ثلاثة أنواع من السلطة مقابل ثلاثة أنواع أخرى من المشاركة لكي نحصل على تسع فئات متميزة عن بعضها البعض.
ومثلما أكد أتزيوني فإن العلاقات تمثل علاقات أكثر تجانساً بشكل يمكن لها أن تجعل النشاط البشري أكثر وضوحاً واستقراراً بينما تعبر باقي العلاقات عن أوضاع أقل تجانساً ممّا قد يجعل المجتمع أكثر عرضة للأزمات والنزاعات.
إن الميزة التي يتمتع بها هذا النموذج التفسيري تتمثل في أن المواطنة والمشاركة لا توجدان في فراغ بل ترتبطان بالضرورة بنوع السلطة القائمة التي لها امكانات البطش والتحفيز والتوجيه عبر مختلف الوسائط القمعية والقانونية والاقتصادية والإعلامية والثقافية.
القمع يمثل إجباراً، والاقتصاد يمثل تحفيزاً، والقانون يمثل توجيهاً، والإعلام والثقافة يمثلان دعوة وترغيباً؛ أي أن عناصر القوة والقانون والمال واللغة تمثل ركائز أساسية تساعدنا على فهم المواطنة والمشاركة في ضوئها.
ورغم أن هذا النموذج إيضاحي تفسيري يعمد إلى إيجاد ربط ثنائي بين هذه العناصر، إلا أنه من الناحية الواقعية فإن المزاوجة بين أي عدد منها قابل للتحقق أحياناً بمعنى أن تسعى السلطة القهرية مثلاً إلى عزل فئات اجتماعية معينة وتحفيز أخرى وربط غيرها بقيم أخلاقية وهو ما يترتب عليه زيادة تعقيد فهمنا لمسألتي المواطنة والمشاركة.
…
يتبع
***
علي المنتصر فرفر ـ أستاذ الإعلام في عدة جامعات ليبية
______________