خيري عمر
السلفية الجهادية
تشيرُ نتائج الانتخابات في 2012 إلى ضعفِ قدرة المجال السياسي في ليبيا على تكوين أحزاب، فبينما شغل كثيرون من أعضاء الجماعة الإسلامية مقاعد المستقلين، لم تحقّق الأحزاب المنبثقة عنها نتائج يُعتدّ بها، ما يشير إلى فقرِ تجربةِ الأحزاب الهرمية، فيما تتميّز نسبياً في الخبرات الشبكية والعنقودية والتي تمثّل ميراثاً من العمل التنظيمي على مدى المشاركة في التنظيمات الجهادية.
تمّت ترجمة التوّجهات الجهادية في ظهورِ مجموعات “أنصار الشريعة“، “شورى بنغازي” و“مجلس شورى درنة” ثم “سرايا الدفاع عن بنغازي“، لينتهي مشوارها بالنزوح الفردي لغرب ليبيا والانضواء تحت مسلّحي المدن.
وفي الفترة نفسها، ساعدَ صعود الدور السياسي للمفتي، الصادق الغرياني، عندما صار مستشاراً غير رسمي لرئيس المؤتمر الوطني، نوري أبو سهمين، على ملء الفراغ، بالحديث عن حماية الثورة، ليكون مظلّةً لإسلاميين كثيرين في وضع ملامح للحوار الوطني ودور الأمم المتحدة.
وقد تطوّرت هذه الأرضية حتى تكوّن تيار “يا بلادي” تعبيراً عن رابطة بين الإسلاميين المستقلين.. وفي اتجاهٍ آخر، تقاربتْ أحزاب “الجماعة الإسلامية” مع أفكار المفتي، ليتبلور إطار ما يُعرف بـ“تيار المفتي“، للدلالة على مظلّةٍ لتعويض حالة التفكّك التي تمرّ بها المجموعات المنضوية تحت الأشكال التنظيمية للسلفية الجهادية.
وحتى حرب طرابلس في 2014، ظلّت هذه الصيغة تُشكل الإطار التجميعي لكلّ الأطر الجهادية، وتطوّرت لاحقاً مع تكوين حكومة الإنقاذ الوطني ثم مرحلة التضامن في مواجهة اللواء المتمرّد، خليفة حفتر، وحلفائه الإقليميين، واتخذت من دار الإفتاء وقناة “التناصح” منصّة لتوضيح موقفها إزاء القضايا المختلفة.
تشيرُ نتائج الانتخابات في 2012 إلى ضعفِ قدرة المجال السياسي في ليبيا على تكوين أحزاب
وبجانب إفساح المجال لمساهماتِ السلفية الجهادية، ونشر آراء المفتي على صفحة جمعية “الإحياء والتجديد“، استمدَّ التيار قوّته من حاجةِ حكومة الوحدة الوطنية للشرعية والشعبية.
ويحاول عبد الحميد الدبيبة منذ سنوات الاستناد إلى مشروعية دينية عبر تقاربه مع الصادق الغرياني، أبريل/ نيسان 2022، بوصفه واحداً من مصادر الشرعية أو تعويضاً عن افتقادِ ليبيا للمؤسّسية السياسية والدينية.
كما يفقد سلطته على شرق ليبيا لوجود مؤسّسة إفتاء مناظرة، لكنها لا تتمتّع بنفوذٍ مُماثل.
وهذا ما يفسّر جزئياً ندرة انتقادات المفتي للحكومة، فيما يدخل في مفاصلةٍ سياسية ودينية مع تكوينات سياسية عديدة في شرق ليبيا وغربها، وبجانب خلافه الواضح مع خليفة حفتر والسلفية المدخلية، هناك خلاف مع الإخوان المسلمين وحزبي العدالة والبناء والحزب الديمقراطي.
تيار السلفيّة المدخليّة
وتكتمل الديناميات الإسلاميّة مع صعودِ السلفيّة المدخلية ضمن الخريطة الفاعلة في السياسة الليبية، حيث شهدت تطوّرات متسارعة منذ نهاية حقبة معمر القذافي، فقد ظهرت لملء الفراغ في مقابل ظهور الإخوان المسلمين ضمن مشروع ليبيا الغد.
ومنذ بدء الحرب الأهلية في 2014، اتجهت للتغلّغل في وزارة الأوقاف، وهي الأسرع اندماجاً في السلطات المحلية والعسكرية للحكومتين في شرق وغرب البلاد، لتكون الأكثر تأثيراً من بين الإسلاميين في السياسة الليبية.
لا تبدو المجموعات السلفية تنظيماً تقليدياً، فهي أقرب إلى مجموعاتٍ شبكية، تستمدُ تماسكها من فتاوى الشيخ، ربيع المدخلي، مُرشداً دينياَ وسياسياً، ما جعلها أكثر مرونة في التعامل مع الانقسام السياسي.
فلم ينشغل المداخلة بخلافات الحكومتين، بقدر الاهتمام بتوطيد المكانة السياسية والأمنية عبر الالتحاق بالمؤسّسات على الجانبين، ما يعكس سيولة أو غموض الأهداف.
فعلى الرغم من اشتعال المعارك على طرابلس، انشغلت الكتائب السلفية بالاندماج في الجيش الليبي (القيادة العامة)، كما سعت “قوات الردع” إلى توسيع دورها على مستوى المؤسّسات المهمة في العاصمة، لتقومَ بدور استعادة النظام في المؤسّسات المحلية.
وتحت هذه الوضعية، تمكّن المداخلة من تثبيتِ دورهم الأمني والديني على مستوى البلاد، ليتصاعد دورُهم في أثناء المعارك حول العاصمة في أغسطس/ آب 2018، وحرب 2019 – 2020.، لكنها فقدت وجودها في شرق ليبيا.
ومع اختلاف التَشَكّل التنظيمي، تظهر عوامل القوة والضعف، فمن جهةٍ، يعملُ الإضعاف المتبادل ما بين “الإخوان” والسلفية الجهادية على إفساح الطريق أمام المدخلية للتغلغل في مؤسّسات الدولة.
وفيما دَعمت الانقسامات المتتالية تراجع “الإخوان المسلمين“، تُوفّر مجموعاتُ السلفية الجهادية مظلّةً مفتوحةً لبعض الإسلاميين المستقلين الخارجين من حزب العدالة والبناء.
ومن جهةٍ أخرى، يساهم انتشار المداخلة على جانبي الحكومتين في زيادةِ الفرصة لطرحهم بديلاً يُغطي على انحسارِ الإسلام السياسي، نظراً لارتفاع الطلب على مساهماتها في الصراع الدائر، ما يُضفي مزيداً من القوّة على أيديولوجيةٍ محافظة.
تبادلت أطراف الإسلاميين في ليبيا الاتهام بالتطرّف والإرهاب، ولم يقتصر الأمر على الخلاف الثقافي، بل امتدّ إلى القمع والانتهاك الجسدي
وعلى الرغم من تلاقي الإسلاميين والمداخلة على معاداةِ تنظيم “الدولة الإسلامية“، تنامتْ الخلافات بين المجموعات الثلاث، لتصيرَ واحدةً من المعضلات الليبية، حيث تتكوّن مصفوفة صراع ثلاثي الاتجاه.
فقد تبادلت أطراف الإسلاميين الاتهام بالتطرّف والإرهاب، تحت أرضيةٍ عدوانية، لا تقتصر على الخلاف الثقافي ونشر الأفكار المُغذيّة للخلاف، بل تمتدّ إلى القمع والانتهاك الجسدي، مستخدمين مؤسّسات الدولة ووسائل الاتصال المفتوحة، لتعمل على تنامي بناء مصفوفة الصراع بين الجماعات الدينية.
وبينما يبتعدُ المداخلة عن نقاشِ المشكلات اليوميّة، شكّل الموقف من مقترحات البعثة الأممية للحوار السياسي (2015) أرضية الانقسام بين الإسلاميين.
تسبّبت التحضيرات لاتفاق الصخيرات في تصاعد الخلاف بين “العدالة والبناء” والمجالس الثورية والعسكرية لمدن غرب ليبيا. ولاحقاً، تبنّى الحزب الديمقراطي ضرورة إجراء الانتخابات مؤسّساً موقفه على ضرورة وجود الدولة واحتكارها للسلاح، فيما تحفّظ العدالة والبناء على القوانين الانتخابية، ليكون موقفه متقارباً مع تيار دار الإفتاء، ما يعكسُ تشتّت الموقف السياسي.
وبتصنيفها مؤسّسة محايدة، ينظرُ الحزب الديمقراطي، 19 يناير/ كانون الثاني 2022، لتدخل “دار الإفتاء” السياسي نوعاً من “الوصاية” على ثورة فبراير، حيث لا تحتمل الأحداث الجارية التصنيف تحت ثنائيات الحلال والحرام أو الحق والباطل، فطبيعةُ العمل السياسي تقديريّة على أساس نسبية المصالح والمفاسد، والأولويات والإكراهات، كما في حالات اتفاق الصخيرات أو الدعوة إلى التظاهر أو تحريم زيارة مسؤول لدولة على خلاف مع حكومة طرابلس.
…
يتبع
***
خيري عمر ـ استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .
________________