علي المنتصر فرفر
العزوف الانتخابي
ولو أردنا النظر في العلاقات الثلاثة الأكثر انسجاماً في نموذج أتزيوني، فإنه يمكننا أن نبدأ بأولاها التي تعبر عن الانسحاب والانعزال الذي يحدث في ظل الأوضاع السلطوية، وهذا أمر يمكن فهمه في ضوء أن السلطة القاهرة تدفع بالأفراد نحو التراجع والإنغلاق، حيث لا مجال للمبادرة والمشاركة إلا في المساحات التي تسمح بها السلطة.
لكن السؤال الذي نحتاج إلى محاولة الإجابة عنه هو: كيف يمكن لنا أن نفسر الانسحاب أو الانعزال في ظل الأنظمة التي تصنف نفسها بأنها أكثر ديمقراطية، حيث تدنت نسبة المشاركة الانتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2014 مثلاً إلى 36.4%.
وقد شهدت كثير من بلدان العالم بشكل عام تراجعاً في أرقام عضوية الأحزاب والنقابات وفي روسيا ذكر اكثر من %80 من الشباب انه ليس لديهم أي اهتمام بالسياسة؛ حيث ذكر %19 فقط من الشباب ان لديهم اهتماما بالسياسة مثلما ورد في استطلاع للرأي أجراه مركز ليفادا الروسي بالتعاون مع مؤسسة فريدريك ايبرت الألمانية.
هنا تختلط التفسيرات بالتبريرات؛
فمنذ العام 1793 تحدث الصحفي والكاتب البريطاني وليام قودوين صاحب كتاب “العدل السياسي” عن مبدأ تخليص السياسة من الديمقراطية المفرطة، وتخليص الدبمقراطية من المشاركة المفرطة لأنه وفقاً لرأي تودوين فإن صوت الشعب ليس صوت الحقيقة ولا صوت الله. كما أن التوافق بين الناس حول أمر ما لا يمكنه أن يجعل الخطأ صواباً.
وفي كتاب سخرية أقدار الديمقراطية لصاحبه هارمون زيغلر يرد التعبير النخبوي للديمقراطية بشكل أكثر وضوحاً حين يقول: إن الديمقراطية هي حكم الشعب، ولكن مسئولية بقاء الديمقراطية تقع على كاهل النخب.
إذا كان بقاء الديمقراطية الأمريكية يعتمد على المواطنة الفاعلة والمتعلمة والمتنورة لكانت الديمقراطية الأمريكية قد أختفت منذ أمد بعيد لأن جماهير المواطنين الأمريكيين لديهم عدم اكتراث، ونقص في المعلومات حول السياسة عموماً والسياسة العامة، كما أن لديهم إلتزاماً ضعيفاً بالقيم الديمقراطية، إلا أنه لحسن الحظ فإنه فيما يختص بالقيم الديمقراطية الأمريكية الجماهير ليست قائدة بل منقادة.
وفي نفس الإطار جاء تقييم المفكر الألماني هابرماس لهذه المسألة؛ ففي مؤلفه الذي نشره عام 1972 عن مفهوم المشاركة السياسية خلص إلى القول بأن الإفراط أو الإسراف في المشاركة السياسية له آثار سلبية؛ ذلك أن العزوف وعدم الإكتراث لهما نفس قيمة المشاركة، لأن سوق السياسة يتطلب دوماً وجود احتياطات بشرية يمكن العمل على تعبئتها عند الضرورة.
وفي تفسير آخر للباحث الألماني ريتشارد مونخ، فإن ما تشهده المجتمعات المعاصرة من عمليات تضخم يؤدي إلى التقلص والتراجع؛
-
فالتضخم في حجم الإتصال السياسي يؤدي إلى العزوف،
-
والتضخم في الإقتصاد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار ونقص الطلب،
-
والتضخم في اللغة يتطلب من المتحدثين في الإعلام وخارجه استخدام الكلمات الكثيرة والمثيرة والنصوص الطويلة من أجل نقل المعلومات والآراء والأفكار.
ووفقاً لهذه التصورات فإن الأمر يتعلق بالبحث عن نقطة تعادل بين المشاركة والعزوف يكون ما زاد أو قل عنها ذا أثر سلبي على العلاقات السياسية بين الأفراد والجماعات والمنظمات.
ورغم أن جميع هؤلاء المفكرين يجمعون على أن المواطنة والمشاركة تمثلان جزءاً من أهم القيم السياسية للديمقراطية، وأن الممارسة السياسية القائمة على المشاركة تمثل الطريق نحو تحقيق “الديمقراطية القوية” حسب تعبير بنجامين باربر الذي يميز بينها وبين الديمقراطية الضعيفة.
إلا أن الخطر هنا وفقاً لهذه التوجهات يكمن في النزعات الجماهيرية التي يعبر عنها بشكل مباشر من خلال الإستفتاءات الشعبية التي من شأنها أن تقود إلى طغيان الأغلبية؛ أي أن صون الحرية ضد هذه الأخطار المحدقة بها لا يقتصر على حمايتها من خطر الحكومة بل أيضاً من خطر طغيان الرأي العام كل ذلك يأتي في إطار محاولات مجابهة حالات اللاعقلانية في السياسة التي تحدث عنها بشكل مستفيض غوستاف لوبون في كتاب سيكولوجية الجماهير منبهاً إلى خطر ما أسماه “العقل الجمعي” الذي لا يمكن لجمه من خلال القوانين والمؤسّسات، لأن الجماهير في رأيه تستطيع أن تعيش كل أنواع العواطف، وتنتقل من النقيض إلى النقيض بسرعة البرق.
…
يتبع
***
علي المنتصر فرفر ـ أستاذ الإعلام في عدة جامعات ليبية
______________