الفيتوري شعيب

ب ـ التيار السلفي

التيار السلفي في حقيقته مصطلح كبير، وعباءة تحتوي الكثير من الاتجاهات المختلفة، والمتمايزة أيديولوجيًّا ومنهجيًّا، وهي: السلفية الجهادية، والسلفية السياسية الإصلاحية، والسلفية العلمية غير السياسية.

ومن هذا المنطلق تميل الأدبيات الأكاديمية بعد كوينتن فيكتوروفيتش إلى هذا التقسيم. وفي ليبيا عرف هذا التيار واشتهر باسم التيار المدخلي، وهو خليط بين السلفية العلمية، والسلفية السياسية الإصلاحية التي تحمل السلاح، ليس من أجل تغيير النظام، وإنما لحفظ مصالحها وأيديولوجيتها في غالب الأحيان.

وهو تيار سلفي متشدديعتمد في منهجه على أمرين:

ـ الولاء المطلق للسلطة الحاكمة والطاعة الكاملة للحكام والدفاع عن مواقفهم السياسية وسياساتهم مهما كانت.

ـ والهجوم المستمر على المخالفين، وخاصة من التيارات الإسلامية الأخرى.

وفي المقابل هناك أيضا جزء من السلفية العلميةالتي تشارك في مؤسسات الدولة السياسية الرسمية، وعادة ما يركزون جوهريًّا على الدعوة وعلى ضرورة طاعة الحاكم، ولا يمارسون العنف ضد الحاكم المتغلبولا يشاركون في السياسة المؤسسية.

بشكلٍ عام، لا يسعى عموم التيار السلفي في ليبيا إلى وضع نظريةٍ للدولة، والتعمق في آليات الحكم والسلطات التنفيذية، بقدر توجهه للسير في ركب السلطة الحاكمة، وإتّباع ولي الأمر“. وبذلك صنع حالة من التكيّف مع السلطات المتعاقبة، والترابط معها، ليشكّل بيئة مناسبة لممارسة نشاطه وأفكاره .

استفاد هذا التيار من مكاسب ثورة فبراير 2011، خاصة مكسبي الحرية وانتهاء الحكم الفردي المطلق، فأنشأ كثيرا من المدارس الخاصة والمعاهد الشرعية التي تدعم توجهاته، وشكل حالة دينية جديدة في المشهد الديني الليبي، الذي يغلب عليه بالعادة المذهب المالكي والتصوّف.

واستطاع التغلغل في المناطق النائية التي يتدنّى فيها مستوى التعليم والاقتصاد، فجعلها قاعدة خلفية له. كما عزز من وجوده الأساسي والمنظم داخل مؤسسات الدولة وخاصة الأمنية منها، بل إنه وصل في مرحلة متأخرة إلى تأسيس كليات تعلمية شرعية تتبع للجامعات الرسمية التابعة للدولة تنظيميًّا، فضلًا عن وجود مدارس تعليمية خاصة به في مدينة طرابلس.

تنامى هذا التيار في العقد الأخير من عمر الدولة الليبية، سواء في المجال السياسي أو الأمني، من خلال وجوده في كتائب مسلحة سواء في شرق البلاد أو غربها وإن تميز كل منهما عن الآخر في توجهه السياسي والأمني، الأمر الذي أهله لممارسة نفوذ سياسي داخل الدولة، سواء في الصراعات الداخلية أو على صعيد الانحيازات والاستقطابات السياسية المختلفة، وعزز من وجوده في مؤسسات الدولة الرسمية باعتبار أنه كان منحازا لها ورافضا للتغيير.

وقد اقتصر وجود هذا التيار بداية على الشأن الديني البحت في الدولة والمجتمع، إلا أن هذه المعادلة لم تستمر طويلا خاصة مع التغيرات والتقلبات الأمنية والسياسية التي مرت بها البلاد، ليصبح هذا التيار مؤيدا لعملية الكرامةفي الشرق، وغير مؤيد لمعارضيها في الغرب.

وفي أول استحقاق انتخابي في البلاد عام 2012 لأعضاء المؤتمر الوطني العام، ذهب كثير من الفاعلين في هذا التيار إلى ضرورة المشاركة في الانتخابات السياسية، بهدف منع التيارات الإسلامية الأخرى من الوصول إلى السلطة؛ إذ تحوّل الأمر عندهم من منع القوى الأخرى من معارضة الحاكم أو الاعتراض عليه سياسيا، إلى ضرورة المشاركة السياسية لإسقاط التيارات الأخرى، خاصة الإسلاميين، ومنعهم من الوصول إلى الحكم.

وعلى مستوى آخر تحوّل هذا التيار من منع وتحريم المشاركة السياسية في الدولة، إلى أكبر داعم لها ضد تيار الإخوان المسلمين ومن يسير على نهجهم في الاستحقاقات الانتخابية التي تلت ثورة 17 فبراير.

تبدو المجموعات السلفية اليوم أقرب إلى المجموعات الشبكية من نمط التنظيم التقليدي؛ مما جعلها أكثر مرونة في التعامل مع الانقسام السياسي.

فلم تنشغل مثلا بالخلاف الحكومي والانقسام الحاصل فيه، بل اهتمّت بتوطيد مكانتها السياسية والأمنية داخل البلاد، بهدف التمكين لنموذجها الديني.

قبل عملية الكرامة” (2014) كانت التيارات المختلفة في البلاد ومنها التيار الإسلامي، وخاصة السلفي، تتنافس سياسيا على أربع جبهات: الجبهة الإعلامية، والجبهة المؤسسية السياسية، والجبهة الدستورية، وجبهة القوة الصلبة المسلحة.

ولكن بعد ذلك اصطف هذا التيار السلفي في شرق البلاد مع عملية الكرامة، محاربا في صفوفها، ومدافعا عنها، وبذلك تمازجت أفكاره مع الفكر العسكري. بل وجدت عملية الكرامةضالتها في هذا الفكر والنهج، فقدمت له الدعم، مقابل وقوف هذا التيار مع عملية الكرامة في القتال وتخطئة كل من يصطف ضدها.

ظهرت في هذه المرحلة عدّة مصطلحات وصف بها هذا التيار مخالفيه، لعلّ أبرزها وصفه بـالخوارجكل من يقف ضد عملية الكرامة.

وقد وجد قادة هذه العملية، وكذلك الدول الداعمة لها إقليميا ودوليا، في هذا التيار حليفا دينيا محليا قويا، فقدموا له الدعم للاستفادة منه في هذه العمليةمن جهة، وليكون حركة مضادة للتيارات الإسلامية الأخرى الموجودة في البلاد من جهة أخرى.

فقد تعزز وجود سلفيي الغرب الليبي في الخطاب الديني المؤسسي في هيئة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

وتحظى هذه المؤسسة بدعم إحدى أهم القوى العسكرية في طرابلس، قوات الردع الخاصة“. والجدير بالذكر أن هذه الأخيرة لم تُعلن انضمامها إلى قوات الكرامة، بل على العكس شاركت إلى حد ما في صد الهجوم على طرابلس في 2019، الذي قامت به عملية الكرامة وباء بالفشل.

والخلاصة أن هذا التيار منقسم عمليا وليس أيديولوجيا إلى قسمين:

الأول في شرق البلاد ويتبع عملية الكرامة ويتوجه بإمرتها أمنيا وسياسيا، في عملية تزاوج مصلحي بيروقراطي بينهما، إذ إن كل طرف يقدر مصلحته مع وجود الطرف الآخر، باعتبار أن هذا التيار يرى في عملية الكرامة راعية له من جهة، وحليفا له ضد التيارات الإسلامية الأخرى من جهة أخرى.

وأما الثاني ففي الغرب الليبي، وإن كان لم تظهر معالم تأييده الواضح لتوجه معين في العملية السياسية إلا أن سلوكه وتوجه يبين ذلك، إذ الغالب عليه الركون إلى كل عملية سياسية أو حكومة جديدة تكون واقعا في البلاد، وإذا كان ذلك ليس على الإطلاق فإنه الغالب حتى الآن، باعتبار قابلية وقدرة هذا التيار على التكيف مع أي سلطة قائمة أو تستجد في البلاد.

كما أثبت سلوك هذا التيار، أن علاقة السلفيين بالسياسة أكثر غموضًا وتعقيدًا، إذ يغلب عليه التصرف بشكل غير سياسيفي عالم سياسيفي حالاتٍ عديدة،

كما يفتقر عموم التيار السلفي في ليبيا إلى القيادة الموحدة والهياكل التنظيمية. وكذلك فإنه أيدولوجيا لا يحظر سلوكا سياسيا معينا، فقد اختلف مثلا الفعل السياسي ممن كان منه في الشرق عمن كان منه في الغرب الليبي، دون إنكار قوي من قبل أي منهما على الآخر.

يتبع

***

الفيتوري شعيب ـ كاتب ليبي وأستاذ جامعي، متخصص في العلوم الإسلامية والفكر الإسلامي، له مؤلفات وبحوث محكمة، والعديد من المقالات الفكرية والسياسية، شارك في العديد من المؤتمرات والندوات المحلية والدولية.

_____________

مقالات مشابهة