خيري عمر
تصوّرات دار الإفتاء والسلفية الجهادية
تلعبُ دار الإفتاء دوراً مهماً في تشكيل الوعي الأيديولوجي للسلفية الجهادية، وتقديمها تيّاراً تحرّرياً، فمن خلال تصدّيها للشؤون العامة، تطرحُ تأويلات للشريعة في الشأن السياسي.
وقد اكتسبت هذه المكانة مع اندلاع ثورة فبراير (2011) عندما ساهم المفتي الصادق الغرياني في وضح ملامح خطاب المحتجّين تجاه إقرار العزل السياسي، المصالحة الوطنية، وعقد الحوار السياسي تحت مظلّةٍ وطنيةٍ مستقلة.
ولذلك اعتبر اتفاق الصخيرات تأسيساً للفساد وتردّي الدولة، ودعا أيضًا لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، قوات “الردع الخاصة“، والقيادات صنيعة الاستخبارات السعودية.
ووفق اعتبار دار الإفتاء حكومة الشرق غير شرعية، تنتفي عنها صلاحية طبع العملة أو عقد اتفاقيات عسكرية مع أطراف خارجية، 14 مايو/ أيار 2024.
ولذلك، اعتبر التدخّل الروسي عدواناً واحتلالاً من دولةٍ كافرةٍ، تجب مقاومته بالجهاد الدفاعي.
كما يضع بعض الدول العربية تحت تصنيف دول مُعادية، لا يجوز التجارة معها، ويشير بشكلٍ متكرّر إلى كلٍّ من الإمارات والأردن ومصر.
تلعب دار الإفتاء دوراً مهماً في تشكيل الوعي الأيديولوجي للسلفية الجهادية، وتقديمها تيّاراً تحرّرياً
ووفق هذا النهج، يتقاربُ تيار “يا بلادي” مع الأرضيّةِ الجهادية، وتقوم مقولاته على ثلاثة مكوّنات، 10 يناير/ كانون الثاني 2023؛ شمول ثورة فبراير المجتمع، تنوّع الرأي وعَلم الاستقلال.
وفي هذا السياق، يصنّف مرحلة معمّر القذافي خارج الروح الوطنية، لتجاوزها ثوابت الدستور والعَلَم. ووفق هذا التحديد، يُعتبر العدل أرضية مشتركة للمصالحة الوطنية وبناء الدولة.
وتمديداً لمنهج المفتي، اهتم تيار “يا بلادي” بالقضايا الخارجية، حيث برّر نشأته بمواجهة التهديد الخارجي ورفض انتهاك السيادة، ثمّ مواجهة الفساد والانقلاب، وكان أقلّ رغبة في التعاون مع شبكة الأحزاب الليبية، 15 فبراير/ شباط 2023، لانخفاض فاعلية أحزابه الثمانية في تكوين رؤية للحل السياسي ومحدودية تأثيرها.
ومع اندلاع حرب غزّة، اتضحت ملامح فتاوى مفتي ليبيا، 29 مارس/ آذار 2024، فقد اعتبر اقتحام معابر غزّة والضفة الغربية فريضة عين على المسلمين. ولذلك، صنّف مانعي الوصول إلى المعابر في مصر والأردن صهاينة.
لا تبدو المشكلة في غموضِ آليات الفتوى بقدر تصريحها بالخروج على الحكومة من دون ضمانات واضحة أو التحوّط ضدّ الفوضى. فقد جاءت خالية من السياقات الإقليمية والداخلية في كلّ دولة.
وبغضّ النظر عن الجدل حول الاختصاص المكاني، لم تتمكن دار الإفتاء من بسط ولايتها على شرق ليبيا في رؤية الأهلة في رمضان الفائت، وبالتالي، فإنّ شمول الفتوى لجغرافيا ومصالح أخرين،29 مارس/ آذار 2024، كان يتطلّب تبرير حالة الطلب والإلزام بالخروج.
وبغضّ النظر عن قيام هذه التطلّعات على خلفية الأممية الإسلامية، فإنها تعكس جانباً من الخلاف السياسي أكثر منها رأياً علمياً، فلم تستوف دراسة شروط الاستطاعة وترجيح المصلحة في تركيبة سياسية واقتصادية مُعقدة، لتكون دعوة للتمرّد والثورة على الطغاة دون التقيّد بحدودِ الدولة.
اتجاهات السلفية المدخلية
بشكلٍ عام، لا يسعى المداخلة إلى وضع نظريةٍ للدولة، فهم أكثر انشغالاً بمجريات الوضع السياسي.
وتُفسّر أفكار الخضوع لولي الأمر قابلية المداخلة للتكيّف مع السلطة القائمة والترابط معها، لتتشكّل بيئة مناسبة للنمو السريع منذ حقبة معمّر القذافي، وزادت شعبويتها في السنوات اللاحقة لثورة فبراير، وخصوصاً بعد اندلاع الحرب الأهلية في 2014.
ورغم استقرار هذه القاعدة الفكرية، فإنّ انتشار دعاة المداخلة على مساجد ليبيا وتصاعد قدرة “الردع الخاصة” على توسيع استقلالها عن الحكومة لتغَيّر في القناعاتِ الإيديولوجية تجاه الخضوع للسلطة والخروج من حالةِ المُهادنة بتوسيع نفوذها على حساب الحكومة في طرابلس، كما يشكلون مكوّناً مهماً في الجيش الوطني لدورهم في معركة استعادة بنغازي في 2015.
تفسح هذه التغيّرات الطريق أمام مراجعة رفض الديمقراطية والقبول بالمشاركة في التصويت والانتقال من وضعيةِ جماعة الضغط إلى المشاركة المباشرة في الشؤون العامة، ما يمثل تغيّراً هيكلياً في تركيبةِ الناخبين ونتائج الانتخابات.
ومع تتابع الاشتباكات المسلحة والحروب الأهلية، زاد تغلغل المداخلة في القطاعين، الأمني والعسكري، على جانبي الحكومتين، ما وضعهم في ميزة نسبية مُقارنة بالتيارات الأخرى.
وبينما يسودُ المذهب المالكي في ليبيا، يمثل انتشار المداخلة مصدر خلاف على هُويّة الدولة، ما يثير مخاوف متنامية بسبب خلاف الأيديولوجيا بين التيارات المختلفة، سواء الجهادية أو الإباضية أو المالكية.
تُفسّر أفكار الخضوع لولي الأمر قابلية المداخلة للتكيّف مع السلطة القائمة والترابط معها
أرست هذه الحالة مناخَ التنافر بين مجموعات السلفية الجهادية والإخوان المسلمين، لتعكسَ التناقضات موقفاً غير متجانس بشأن طبيعة النظام السياسي أو الصراع المسلّح.
وبدا التشتّت واضحاً، في انحسارِ النفوذ في المؤسّسات، فقد ساهمت التقلّبات السياسية في تحويل نفوذهم لخدمةِ الفاعلين الجدد المصاحبين للحكومات الانتقالية.
…
يتبع
***
خيري عمر ـ استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .
________________