الفيتوري شعيب
الشخصيات الإسلامية المستقلة
تؤدي كثير من الشخصيات الإسلامية في البلاد دورا بارزا في العملية السياسية فيها، ولا سيما أن المجتمع الليبي محافظ في سلوكه في أغلبه؛ مما جعله مستجيبا لتوجهات العلماء في كثير من القضايا السياسية العامة، وبالفعل استجاب كثير من أبناء البلاد مثلا في شرق البلاد وغربها، وشاركوا بفعالية في ثورة 17 فبراير/شباط بناء على فتاوى علماء دين محليين لهم مكانة في المجتمع الليبي.
من أبرز هؤلاء الشيخ الدكتور الصادق الغرياني، فقد أفتى بوجوب المشاركة رجالا ونساء ضد النظام السابق “والجهاد ضد طغيان كتائبه“، ليتولى فيما بعد منصب مفتي الديار الليبية، وقد أدى دورا بارزا في العديد من القضايا السياسية، وشكل مظلة لكثير من الإسلاميين داخل البلاد وخارجها.
ومن القيادات الإسلامية الأخرى التي برزت بعد الثورة، نوري أبوسهمين، رئيس المؤتمر الوطني العام سابقًا، الذي أنشأ تيار “يا بلادي“، وهو في حقيقته رابطة تجمع الإسلاميين المستقلين، وقد تقارب معه كثير من الأحزاب الأخرى. كما اهتم أبو سهمين وتياره بالقضايا الداخلية، ولا سيما أنه برّر نشأة تياره بمواجهة التهديد الخارجي ورفض انتهاك السيادة، ثمّ مواجهة الفساد والانقلاب.
ومن الملاحظ أن غالب الشخصيات المستقلة، يجمعها مطلب استقلال الدولة بعيدا عن التدخلات الإقليمية والدولية، ويرون أن اتفاق الصخيرات كان يجب ألا يكون، وأنه أحد أسباب تردي الدولة، وتسبب في خروج الملف الليبي من أيدي الليبيين، وتحول إلى ملف إقليمي ودولي تتجاذبه المصالح الدولية.
وممن يحسب على المستقلين –أيضا– في الحالة السياسية الليبية الحالية، أشخاص كانوا في حركات إسلامية قبل الثورة، مثل عبد الحكيم بلحاج رئيس “الجماعة الليبية المقاتلة” سابقا، الذي ارتكزت فاعلية تنظيمه بعد الثورة في شكل عمل حزبي تحت اسم “حزب الوطن“، معتمدا على دور بلحاج فيه، وليس على عمل مؤسسي حزبي، وقد تمكن من الوصول بنسبة ضئيلة جدًّا إلى المؤتمر الوطني عبر القوائم الفردية في انتخابات 2012.
توافق هذا الحزب –بأشخاصه وليس بكيانه التنظيمي– مع حزب “العدالة والبناء” على كثير من القرارات التي أصدرها المؤتمر الوطني العام، وكذلك في تأييدهما لعملية فجر ليبيا بعد الانقسام السياسي الذي بدأ يظهر خلال المرحلة الانتقالية، وفي رفضهما لعملية الكرامة، و“الانقلاب” على الإعلان الدستوري في فبراير/شباط 2014.
من هذا المنظور، شهدت “الجماعة الليبية المقاتلة” تحولات من العمل السياسي المسلح إلى العمل السياسي السلمي، ومن ثم من العمل الحزبي إلى الفردي المستقل، وهؤلاء المستقلون حاضرون في الساحة السياسية الحالية في البلاد، ومن أبرزهم بلحاج.
أدى “بلحاج” دورا في الثورة الليبية عام 2011 وصولا إلى تأسيسه “حزب الوطن” في إبريل/نيسان 2012، الذي أصبح منصة لمزاولة عمله السياسي. وكان لبلحاج دور في كل الأحداث التي مرت وتمر بها البلاد بشكل “شخصي ومستقل” بعيدا عن المسمى الحزبي هذا، أو حتى عن التيار الذي يمثله بطريقة أو أخرى أي تيار “الجماعة الليبية المقاتلة” سابقًا.
بالمجمل، فإن أبرز الرموز والشخصيات الإسلامية المستقلة كانت لها قواعد ثابتة ورؤى واضحة اجتمعت عليها في قضايا محلية وسياسية، كان لها أثر بالغ في الحالة السياسية اليوم في البلاد، أبرزها:
دعم وتأييد قانون العزل السياسي عقب الثورة، وتأييد عملية فجر ليبيا ضد محاولة “الانقلاب” على السلطة في 2014 من قبل عملية الكرامة.
قد يكون الاستثناء اختلافها حول قبول “اتفاق الصخيرات“، لكنها قبلت نتائج حوار جنيف الأخير في فبراير/شباط 2021 والمجلس الرئاسي الجديد الذي نشأ عنه وحكومة الوحدة الوطنية الحالية.
مستقبل التيارات الإسلامية
إن طول فترة الانقسام السياسي في البلاد، أظهر كثيرا من إمكانات التيارات الإسلامية في الفعل السياسي، وكذلك في التكوين والنشأة والتطور، ابتداء من العمل الديني البحت، وصولا إلى التداخل والتدافع الكبير نحو السلطة السياسية.
من الواضح أن التيار السلفي بمجمله سيستمر على الأبجديات التي سار عليها من قبل، وسيحافظ على وجوده في المسار الذي اتخذه قدر الإمكان، سواء في الشرق أو الغرب الليبي.
ولكن هذا ليس على الإطلاق، فقد يتحول من حالة إلى حالة أخرى يكون فيها طرفا في أي صراع سياسي مستقبلي، باعتبار قابليته للتكيف مع أي سلطة تكون أو تستجد في البلاد.
أما جماعة الإخوان المسلمين والقوى المؤيدة لها من شخصيات مستقلة وأحزاب سياسية أو ما يمكن أن نطلق عليه طيف “الثورة“، فهي التي تقع في محل التنازع، وما إذا كانت قادرة على الاستمرار فضلا عن التأثير في مستقبل ليبيا. ويمكن حصر السيناريوهات المتوقعة لهذه القوى في:
سيناريو بقاء قوى الثورة:
إن التيارات الإسلامية في ليبيا، وخاصة المُنظمة سياسيًّا، مثل جماعة الإخوان المسلمين، والتيارات التي تناصر الثورة، والشخصيات الإسلامية المستقلة، تملك القدرة على البقاء والتأثير في مستقبل ليبيا السياسي، لأسباب عدة من أبرزها:
أولا: أنها تعتمد على “القوة المسلحة” على الأرض بالتوازي مع العمل السياسي، فهي ترى أن السلاح يضمن لها الحقوق السياسية والقدرة على البقاء السياسي، وليس الدستور ولا المؤسسات ولا حتى سيادة القانون، ولا حتى أصوات الناخبين وحدها.
وهي ترى في هذا الخيار ضرورة لضمان وجودها وليس اختيارا لمبدأ العنف، بل هو وفق هذا المنطق دفاع عن الثورة وحماية لها من “الانقلابات” التي تحاك ضدها.
في نهاية المطاف ستحجز القوة المسلحة لهذا الطيف مكانا في النظام السياسي الحالي ما لم تتغير قواعد اللعبة السياسية في ليبيا.
ثانيا: تمتاز هذه القوى بمرونة سياسية استثنائية رغم أنها عقائدية إسلامية، بل إن بعضها تحول إلى العمل السياسي المطلق وعقد تحالفات مع كل الأطياف السياسية، ليعزز من حضوره في اللعبة السياسية الداخلية، وليبقى جزءا من القوى التي يجب أن تراعيها القوى الإقليمية والدولية، ولا يكون الإقصاء والإبعاد في آخر المطاف هو مآله.
ولتعزيز قوتها السياسية كانت جماعة الإخوان المسلمين قد فصلت العمل السياسي عن الدعوي، الأمر الذي سيساعدها على عقد تحالفات بمرونة عالية.
سيناريو إقصاء قوى الثورة:
أي إقصاء وإبعاد جميع هذه التيارات بالقوة، وذلك بالاستعانة ببعض التيارات الصامتة سياسيًّا، مثل التيار السلفي، قياسا على ما كان في شرق البلاد، ليكون نموذجا معمما على كافة البلاد، وقياسا –أيضا– على ما كان في الدول المجاورة.
لكن هذا السيناريو غير واقعي إلى الآن، لعدّة عوامل أبرزها: توازن القوة والسلاح بين أطراف الأزمة الليبية ومنها قوى “الثورة“، وبالتالي فإن هذه التيارات التي يمكن الاستفادة منها في هذا السيناريو ستبقى على ما هي عليه ولن يكون لها أثر جلي وواضح في العمل السياسي على الأقل في الأمد القريب.
خاتمة
لعل الدور الذي تؤديه التيارات الإسلامية في الوقت الراهن، والمآلات المستقبلية لها، متعددة بتعدد وجودها وتحولاتها. فجماعة الإخوان المسلمين، ستكون من التيارات الإسلامية الفاعلة في المشهد السياسي الداخلي، وإن اعترتها بعض التغيرات والتحولات.
وسينهج “حزب العدالة والبناء” نهج العمل السياسي الهادئ، بعيدا عن الخصومات السياسية قدر الإمكان، في حين سيركز “الحزب الديمقراطي” على عقد تحالفات سياسية جديدة لن تقتصر على التيار الإسلامي، بل ربما ستتعداه إلى تيارات وأحزاب أخرى.
ومن المؤكد أن التيار السلفي في الشرق سيستمر في دعم عملية “الكرامة” ونهجها السياسي، أما في الغرب الليبي فسيسير على نهجه الحالي قدر الإمكان، في مهادنة أي حكومة تحكم البلاد وتعزيز نفوذه في مؤسساتها.
إضافة إلى استمرار حالة التنافر بينه وبين التيارات الإسلامية الأخرى داخل البلاد سواء تيار الإخوان المسلمين أو بعض الشخصيات الإسلامية المستقلة، بل قد يتجاوز هذا الخلاف الأفق السياسي إلى المذهبي، كالاختلاف مع أتباع المذهب الإباضي في البلاد، لما يمثله هذا التيار من مشروع مغاير له.
وبالنسبة للأحزاب التي تقف في صف الثورة بتياراتها المختلفة فغالبا ما تصطف في اتجاه واحد في كل تغيير يحدث في البلاد، بالرغم من التناقضات والمنعطفات التي تكون بينها، وإن أدى ذلك في مرحلة متقدمة إلى تحويل نفوذ أغلب هذه التيارات لخدمة الفاعلين الجدد المصاحبين للحكومات الانتقالية.
أما الشخصيات المستقلة، فهي مرشحة لأداء أدوار أكبر وأكثر فاعلية في أي مشهد سياسي جديد قادم، لسهولة الاتفاق عليها في ظل استحكام الخلاف بين الأطر الحزبية.
وبالتالي فإن هذه التيارات الثلاثة “الإخوان المسلمين، السلفية، المستقلين” هي التي ستشكل أي ديناميات مستقبلية في خريطة عمل الإسلاميين في البلاد، التي ستنعكس على الحالة السياسية فيها مستقبلا.
***
الفيتوري شعيب ـ كاتب ليبي وأستاذ جامعي، متخصص في العلوم الإسلامية والفكر الإسلامي، له مؤلفات وبحوث محكمة، والعديد من المقالات الفكرية والسياسية، شارك في العديد من المؤتمرات والندوات المحلية والدولية.
_____________