علي المنتصر فرفر

وأخيرا جاء البيان المشترك لبلدان الحلفاء الأربعة بتاريخ 10/02/1947 متمثلا في تخلي ايطاليا عن مستعمراتها السابقة، واستمرار الانتداب البريطاني على شمال ليبيا والفرنسي على جنوبها، على أن تتواصل المشاورات بين هذه الدول لمدة عام واحد لإيجاد صيغة مشتركة حول مستقبل ليبيا.

وإذا لم تنجح القوى الأربع في الاتفاق على صيغة مشتركة بينها يحال موضوع مستقبل ليبيا إلى الأمم المتحدة، على أن يكون أي قرار تتخذه الجمعية العامة بالخصوص ملزما لجميع هذه البلدان الأربعة، كما تم إقرار إيفاد لجنة تقصي حقائق لاستطلاع آراء الليبيين حول مستقبل بلادهم، وهو ما تم بالفعل في فترة لاحقة.

مفاد ذلك أن اشتداد التنافس الدولي على ليبيا قبيل الاستقلال وعدم التوافق بينها على الوصول إلى صيغة مشتركة أسهم بشكل كبير في تسريع عملية الاستقلال، لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن في بداية العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين يتمثل في مدى امكانية أن يسهم التنافس الدولي والإقليمي في إعادة استقرار ليبيا وصون وحدتها وسيادتها.

وفيما يختص بالتدخلات العربية في الشأن الليبي، فإن تجارب الأمس بدءا من التدخل المصري في اليمن، ومرورا بالتدخل العراقي في الكويت والتدخل السوري في لبنان لم يقد أي منها إلى شكل مستدام لنفوذ عربي على بلد عربي آخر، ولا يتصور أن تقود التدخلات العربية الحالية في الشأن الليبي أو الشأن اليمني إلى نتيجة مغايرة.

بيد أن التدخل التركي لابد أن يحسب له حساب آخر في ضوء الوجود العثماني في ليبيا بدءا من عام 1551 وانتهاء باتفاقيتي لوزان في 18/10/1912 و 24/06/1923 بين تركيا وايطاليا اللتين تنازلت بمقتضاهما تركيا عن حقوقها في ليبيا لمصلحة ايطاليا.

هذا الوجود التركي الذي قارب الأربعة قرون ربما كان الحافز في أن تتقدم تركيا بالاشتراك مع الارجنتين في 11/11/1950 بمشروع قرار أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حول مسألة الحدود الليبية في ضوء قرار هذه الجمعية بمنح ليبيا استقلالها في أجل لا يتعدى 01/01/1952.

وقد كان قيام تركيا بهذه الخطوة ذا دلالة مهمة لأن بعض هذه الحدود تم وضعها من خلال اتفاقيات كانت تركيا طرفا فيها مثل الاتفاقية مع فرنسا التي كانت تحتل تونس الموقعة بتاريخ 19/05/1910 حول الحدود الليبية التونسية.

أما الحدود الجنوبية فهي تستند إلى اتفاقيات فرنسية ايطالية بينما تستند الحدود الشرقية الى اتفاقيات بريطانية ايطالية، كما أن هذا التشابك الطويل الأمد في العلاقات الليبية التركية ربما كان وراء أن تكون تركيا وجهة أول زيارة خارجية يؤديها الملك ادريس عقب الاستقلال، وربما في هذا الإطار أيضا جاء وقوف ليبيا في عهد معمر القذافي مع تركيا إبان غزوها لشمال قبرص عام 1974.

وإزاء التدخل التركي المعاصر في ليبيا وغيره من التدخلات تسود المواقف العاجزة لنجوم السياسة الليبية المعاصرة التي تقوم على الانكفاء إلى الخلف وترك دفة قيادة الشؤون الاستراتيجية الوطنية لقوى خارجية من وراء الحدود أو من وراء البحار، لكي يكمل المحللون السياسيون والعسكريون المشهد مطلقين العنان لعقول لا تكاد تعقل، وألسنة حداد تملأ الفضاءات الالكترونية ضجيجا لمحاولة فهم ما إذا كان هذا التدخل أو ذاك قد تم بضوء أخضر أو أصفر، أو هكذا بدون أية اضواء مرورية من قبل سادة البيت الأبيض.

وبعيدا عن هذا المنطق التحليلي العتيد فإن أي متابع بسيط لشؤون ليبيا ذلك البلد الملتهب الذي تتلاطم حوله الامواج العاتية أن يلاحظ أن الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين تصدوا لمحاولات الوجود الروسي في ليبيا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

ولا يمكن استنتاج أن هذا الموقف قد يتغير الان، كما انهم ليسوا بحاجة الى التعبير عن هذا التصدي من خلال قوى اقليمية سواء كانت تركيا أو غيرها، خاصة وأن العلاقات التركية الأمريكية علاقات معقدة من السذاجة اختزالها في فكرة أن تكون تركيا مجرد كلب حراسة يحمي المصالح الامريكية ويردع المصالح الروسية.

أردوغان يدرك جيدا أن عجلة الزمن لا تعود إلى الوراء، وأن استعادة ما كان يعرف بالخلافة العثمانية أمر غير قابل للتحقق بالنسبة لتركيا مثلما تكون استعادة الماضي مستحيلة بالنسبة لكل امبراطوريات الامس البريطانية منها والفرنسية والألمانية واليابانية والنمساوية – المجرية وغيرها.

من هنا يكون الغرض الحقيقي لأردوغان يتمثل في حجز مكان جديد لتركيا في عالم ما بعد ازمة كورونا من خلال الانتشار الاستراتيجي في سوريا والعراق وقطر وليبيا وقبرص والصومال واليمن.

هذه السياسةمثلها مثل أي سياسة أخرى – تعبير عن القوة؛ فالقوي هو من يسعى دائما إلى محاولة التأثير في الآخرين، أما الضعيف فلا يملك إلا أن يكون ضحية تنافس الأقوياء.

أما حالة الضعف الليبية فهي ليست بدعة، وهي حالة يمكن أن تتعرض لها أي دولة في بعض مراحل حياتها؛ لكن أسوأ ما يمكن أن يحدثه أهل أي بلد ضعيف مرحليا هو اتخاذ قرارات وتنازلات مصيرية خلال مثل هذه الفترات الاستثنائية بغض النظر عن الجهات والأطراف التي تُبرم معها.

كان يمكن للسلطات الليبية مثلا عدم حسم موضوع شريط أوزو من خلال القضاء الاختياري لمحكمة العدل الدولية عام 1990 وترك المسألة معلقة أمام الأجيال القادمة تتعامل معها حسب الظروف والمستجدات السياسية.

لكن قرار إحالة الموضوع الى محكمة العدل الدولية في اعقاب الانتكاسة العسكرية في تشاد، والاخفاق في تقديم الدفاع القانوني الناجع وصدور الحكم لصالح تشاد عوامل أنهت إلى الأبد احتمالات تمتع جغرافية ليبيا بموقع استراتيجي هام يزخر بثروات طبيعية هائلة يمكن أن تشكل مصدر دخل مهم لشعب ليبيا خلال مرحلة ما بعد النفط.

فترات الضعف المرحلي أو غير المرحلي لأي بلد يسودها عادة التشرذم والتمزق والتخندق مصحوبة بالتنازع حول مسألة الشرعية؛ لكن الأطراف المتنازعة أو المتناحرة تتناسى أن الشرعية بغض النظر عن مصدرها ليست في حد ذاتها برهانا على الطهر السياسي أو القداسة السياسية لأنها لا تشكل على الاطلاق ضمانا بأن الجهات الشرعية تتخذ دوما أو بالضرورة قرارات شرعية.

ويعلم الجميع أن الحزب النازي مثلا وصل إلى سدة الحكم عبر انتخابات برلمانية كان لها وفق المعايير الديمقراطية كل الشرعية، لكن ذلك لم يمنع هتلر وحزبه النازي من اتخاذ قرارات تنتهك كل قواعد الشرعية التي أوصلته إلى السلطة.

وانطلاقا من هذه الإشكالية جاءت عملية الإجراءات الدستورية لعزل الرئيس في الولايات المتحدة الأمريكية إذا ارتكب أعمالا تضر بأمن الدولة وسلامتها رغم اكتسابه الشرعية الديمقراطية عبر العمليات الانتخابية.

من هنا نجد أن التنافس في تقديم تنازلات تخرق السيادة الوطنية من قبل مختلف الأطراف المتنازعة على الشرعية في ليبيا ينسف مشروعيتها من أساسه، وإذا كانت هذه الجهات المتنافسة لا تثق في أن تكون أي من المؤسسات التشريعية أو القضائية الوطنية مرجعية للحصول على شرعية وجودها وقراراتها؛ فإن الاطار الوحيد المتبقي هو عرض قراراتها السياسية ذات العلاقة بالتدخل الاجنبي على استفتاءات وطنية عامة.

وفي هذا المضمار لا بد من تذكير مختلف الاطراف السياسية الحاكمة حاليا في ليبيا بمقولة شهيرة للفيلسوف التشيكي الراحل (ياروسلاف لانجر) في كتابه حدود السلطة“: “إن السلطات الحاكمة في أي بلد لا بد لها أن تدرك أن اعتلاء سدة السلطة، والسيطرة على مقاليد الأمور لأي شعب مسألة عابرة وهي تماثل تماما من يعتلي ظهر الأسد، فمن الممكن أن يبقى لبعض الوقت في عليائه، لكنه قابل دوما لأن يصبح وبسرعة لا يتوقعها غذاءً شهيا لهذا الأسد.

الله الخالق جل علاه يمهل ولا يهمل، والشعوب التي تسكن ارض الله قد تبدو للطامعين واعوانهم من انتهازيي السياسة هادئة وادعة ولكنها قابلة في أي وقت وحين ان تتحول الى سيل عرم يجرف كل المفرطين في سيادته والمتاجرين بأرزاقه ومقدراته.

الشعوب هي التي تصنع العلامات الفارقة في تاريخها، وهي التي ترسم بعرقها ودمها ودموعها الخطوط الحمراء وغير الحمراء في أي مكان من تراب الوطن. خط سرت الأحمر لعام 2020 بالنسبة للشعب الليبي لا يجب له ان يكون الا امتدادا لخط سرت الأحمر الذي دشنه المجاهدون الليبيون في 21 يناير 1922 ( من أجل تحقيق وحدة أراضي الآباء والأجداد) مثلما نص على ذلك القرار الصادر عن مؤتمر سرت، وهو ما يعني ان حدود ليبيا التاريخية شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا هي الخط الأحمر الذي ينبغي ألا يسمح الليبيون لأي معتد اثيم بتجاوزه لأنه ليس مجرد خط من خطوط السياسة؛ بل خط السيادة المقدس للشعب وللوطن.

***

علي المنتصر فرفر ـ أستاذ الإعلام في عدة جامعات ليبية

_____________

مقالات مشابهة