مليكة بوضياف
المحور الثالث، مستقبل بناء الدولة في ليبيا في ظل سيناريوهات متباينة:
في ظل تنامي خطر الجماعات المسلحة في ليبيا، فإن مستقبل الدولة الليبية بات غامضا إلى حد كبير، وهذا الغموض لن يؤثر فقط على ليبيا بل سيؤثر ويمتد إلى جوارها المباشر، ضف إلى ذلك الدور الدولي المحدود، لذا مستقبل الدولة الليبية في ظل هذه الظروف يستغرق عدة سنوات، وفي هذا الإطار يمكن طرح عدة سيناريوهات لمستقبل ليبيا كالتالي:
أولا، يتمثل في تحقيق التحول الديمقراطي المنشود والعمل على إعادة بناء الدولة الليبية:
هذا السيناريو، وإن كان صعبا نظرا لما تعانيه ليبيا الآن إلا أنه ليس مستحيلا، ويكون ذلك من خلال عمل الحكومة الحالية على دعم نظام التعددية الحزبية وإجراء انتخابات حرة نزيهة تشارك فيها كل القوى السياسية عل قدم المساوة، وهو ما يقود إلى حكومة ديمقراطية واستقرار داخلي.
وكذلك عملها على دعم الحراك الشعبي المدني والذي يطالب ببناء جيش وطني ومؤسسات أمنية شرعية وإزالة مظاهر التسلح في الشوارع، ودعم عملية المصالحة الوطنية التي يعيقها العامل الأمني وبالتالي فإن أفضل طريقة لاستتباب الأمن تتمثل في إشراك الليبيين في حوار المصالحة الوطنية التي تساعد على بناء الثقة بين مختلف القوى القبلية والإقليمية وغيرها من القوى الاجتماعي والجماعات المسلحة وبالتالي يسهيل نزع السلاح ، والتأكيد على ضرورة الإسراع بوضع دستور جديد وبناء مؤسسات ديمقراطية.
إن إصرار الحراك الشعبي المدني وتمسكه بالخيار المدني والديمقراطي يشكل أفقا لخروج البلاد من المأزق وفتح المجال لنجاح عملية الإنتقال الديمقراطي، ولكن هذا السيناريو يواجه صعوبات عدة منها عدم وجود مؤسسات قوية في ليبيا تستطيع أن تقود عملية التحول الديمقراطي، وكذلك الخلاف المحتدم بين الجماعات المسلحة حول شكل الدولة الليبية.
ثانيا، نزع السلاح من الجماعات المتشددة وبناء جيش قوي:
قوى الأمن في ليبيا ضعيفة ولا يمكن أن تصلح أحوال الدولة الليبية، إلا إذا قامت بنزع السلاح من تلك الجماعات، وهذا يرتبط بدرجة كبيرة بتقوية المؤسسة الأمنية من أجل فرض القانون على الجميع، لذلك قام رئيس الوزراء علي زيدان بتقديم طلب رسمي إلى عدة دول للتدريب العسكري في قمة الدول الصناعية الثمانية في يوليو 2013.
وافقت عدد من الدول لتدريب الجيش بحيث تتحمل السلطة الليبية نفقاته، فالولايات المتحدة سوف توفر التدريب الأساسي لعدد ما بين 5000 و 8000 جندي ليبي في بلغاريا، في حين أعلنت بريطانيا أنها تقوم بتدريب دفعة أولى من 2000 جندي وتليها دفعات أخرى، إيطاليا ستقوم بتدريب ما يقرب من 2000 جندي، وتركيا ما يقرب 3000 جندي وقد بدأت التدريب فعليا في كل من هذه الإفلات من العقابالبلدان وقد يجعل المجموع الكلي يتقرب من 15000 جندي خلال السنوات القادمة.
بالرغم من وجود هذه الرؤية وبدائل أخرى لمعالجة الاختلال الأمني لدي وزارة الداخلية الحالية، إلا أن غياب التوافق بين الفاعلين السياسيين والقوى المؤثرة في القرار السياسي أدى إلى تعثر خطط الحكومة، بل وتفاقم الاختلال الأمني، لذا فإن مساعي إيجاد وفاق وطني حول سياسات احتواء الاختلالات الأمنية وبناء الجيش والشرطة ينبغي أن تكون المدخل للتصحيح، إلا أن معالجة الخروقات الأمنية في ليبيا اليوم لا يمكن أن يتحقق دون إشراك القبائل في ممارسة ضغوط اجتماعية على غير الممتثلين للسياسات والخطط الأمنية، وتوفير الدعم لرجال الشرطة ومن تسند إليهم مهام حفظ الأمن وتفعيل الرقابة الشعبية بقيادة منظمات المجتمع المدني، لمحاسبة المقصّرين من التنفيذيين المعنيين بالملف الأمني، والرقابة على المخصصات الضخمة للجيش والشرطة، لمنع الهدر والفساد الذي ارتبط بهاتين المؤسستين.
وهذا هو الأهم بالنسبة لمستقبل الدولة الليبية الناشئة، فبعد ما ترك القذافي ليبيا بدون جيش يحميها، حتى تطورت الأمور على ما هي عليه الآن من صراعات وتزاعات على السلطة والثروة، فإن الاهتمام ببناء جيش قوي يجب أن يكون من ضمن أولويات الحكومة الليبية في المرحلة القادمة، لأن الجيوش الحديثة لديها خطط واستراتيجيات للتعامل مع المتشددين من خلال مقاومة الفكر بالفكر أو استخدام العنف المنظم مع تلك الجماعات التي تحاول زرع اللأمن في البلاد على أن لا تكون ميليشيا في المستقبل.
تبقى الجهود والمبادرات الأجنبية غير كافية وحدها لفرض الاستقرار في البلاد ما لم تكون هناك مساعدة من قبل الحكومة الليبية والقبائل لتقليل الاشتباكات بين الجماعات المسلحة.
ثالثا، مساعدة ليبيا في تقوية حرس الحدود:
يظل أمن الحدود، بسبب اتساع جغرافية ليبيا وقابليتها للإختراق، والتهريب وتحرك المجرمين، سيظل يهدد الأمن الليبي والإقليمي على نطاق واسع، لذا فإن تأمين الحدود يستغرق وقت كبير لأنه يرتبط ببناء القدرات المؤسسية مثل الجيش والشرطة والإستخبارات والرصد والمراقبة وغيرها، مع ضرورة أن تكون هناك مساعدة من قبل الدول العربية المجاورة لليبيا على ذلك وعلى الأخص من قبل مصر، حيث يجب أن تبادر القيادة المصرية بالعمل على ترتيب الأوضاع داخل ليبيا، وذلك من خلال جمع شمل الليبيين والتوسط فيما بينهم. وكذا ضرورة التنسيق مع باقي دول الجوار على الحدود لتضييق الخناق أمام الجماعات المتشددة في ظل ضعف الدولة الليبية.
رابعا، استخدام النفط الليبي كسلاح لمقاومة التشدد:
يمكن من خلال إعادة توزيع عوائد النفط بما يكفل تحقيق المساواة والعدالة بين أفراد المجتمع، وبما يرضي جميع الأطراف الجغرافية والقبلية، يجب أن يكرس جزء كبير من هذه العائدات للتعليم، من أجل مقاومة التشدد ونشر ثقافة السلم في عقيدة الإسلام السمحة.
وفي المقابل من منطلق التحليل السياسي والسوسيولوجي للأوضاع السائدة في الداخل الليبي لغياب الرؤية الموحدة بين الجماعات المتشددة يبين صعوبة إقامة دولة مدنية في ليبيا، الإفلات من العقابلانعدام الانسجام والتوافق بين مختلف التيارات من جهة وبين باقي المكونات السياسية والمجتمعية حول الشكل المتوقع للنظام السياسي الذي ستكون عليه ليبيا.
لا يمكن لإدارة ليبيا إذن إعادة بناء الدولة، من دون تنازلات تقدمها القوى السياسية والاجتماعية والأمنية الفاعلة. وتاريخيا عرفت القبائل الليبية برفضها للعنف فيما بينها، وكونت في المدن الليبية والمنافي بنخب مدنية، قادرة على التوصل إلى تسويات وحلول وسطى.
وبناء على ذلك فإن ما يجب أن يحكم سلوك النخب السياسية والأمنية الليبية، في مثل هذه الأحوال، الحرص على المؤسسات الوطنية، والمصلحة العامة، ووحدة الدولة قبل أي شيء آخر، وعدم السماح لأي جهة بفرض نفسها بالقوة، لأن ذلك سوف يدخل البلاد في صراع أهلي.
خامسا، الإهتمام بالتعليم:
كان هذا المطلب الأول للشباب في 17 فبراير، وربما كان هدفا أكثر إلحاحا من إسقاط النظام ذاته، فالتعليم قاطرة التنمية ومحورها الأساسي، ويتم ذلك عن طريق وضع قوانين وضوابط تدعم التعليم الديني الرسمي ومعاهده وجامعاته، جنبا إلى جنب مع التعليم العام.
وهذا أمر ليس بالعسير وليبيا في مرحلة تأسيسية مهمة تتيح لها بناء نظام تعليمي فاعل وقوي من الإبتدائي إلى الجامعة وحتى إمكانياتها المادية مساعدة على ذلك لعدد السكان القليل.
:سادسا، المصالحة الوطنية كآلية
للخروج بالبلاد من الصراع القبلي وبناء الدولة المدنية، والحفاظ على النسيج القبلي، لابد من تبني ألية المصالحة الوطنية في أبسط معانيها، أي “عملية للتوافق الوطني على أساسها تنشأ علاقة بين الأطراف السياسية والمجتمعية قائمة على التسامح والعدل وإزالة آثار صراعات الماضي، لتحقيق التعايش السلمي بين أطياف المجتمع كافة، بما يضمن الاستقرار الأمني الداخلي.
خلاصة واستنتاجات:
إن مستقبل الدولة الليبية في ظل هذه التطورات يشوبه الكثير من الغموض، وذلك لن يؤثر على ليبيا فحسب بل سيؤثر ويمتد إلى دول الجوار، لذا على الدولة الإقليمية أن تساهم إلى حد ما بتخفيف الصراع في الداخل الليبي والعمل على تفعيل المصالحة الوطنية في ظل إعادة بناء إعادة بناء لمقومات الدولة، التي دمرها النظام السابق، لإن التجارب السابقة بحسب رأي الخبراء في هذا الشأن خاصة في تقارير الأمم المتحدة المتعلقة ببناء الدولة في مرحلة ما بعد النزاعات إلى جملة من التحديات الأساسية لكل دولة تشهد حالة من الصراع الداخلي المعيقة لتطوير هياكل الحكومة في هذه المرحلة.
وأخيرا، لو أننا سلمنا بأن الدولة الحديثة لا تقوم على العشائرية والقبلية فهذا مخالف لطبيعة وخصوصية المجتمع الليبي الذي لا يمكن تجاهله، مع العلم أنه في دول أخرى التي تكون فيها القبيلة من أهم مرتكزاتها، تشهد استقرار اجتماعي وسياسي. ولكن هذا لا يعني عدم تقوية مؤسسات الدولة خاصة في ليبيا التي تشهد ضعف كبير في كل المؤسسات سواء الأمنية أو السياسية.
ولكي تستقر الأوضاع في ليبيا، من الضروري العمل بشكل توافقي بين كل شرايح المجتمع دون إقصاء أو تهميش خاصة في هذه الفترة التي تشهد توترا كبيرا على تقوية مؤسسات الدولة وتفعيل نشاطها في إطار قانوني يخضع له الجميع، وعلى كل القبائل الفاعلة أن تساهم في تهجئة الوضع والجلوس إلى طاولة الحوار من مصلحة البلاد التي تتكالب على ثرواتها الدول الأجنبية. وبالتالي، ينبغي إيجاد حل سلمي من الداخل دون تدخلات أجنبية.
إن القبيلة بإمكانها أن تتخلص من تركة القذافي وتتجه نحو الحياة المدنية والديمقراطية وإرساء قواعد المصالحة الوطنية بين كل شرائح المجتمع، وهذا في سبيل إعادة بناء الدولة والمجتمع في ظل العدد القبلي والثقافي والاجتماعي.
من الضرورة إعادة بناء المؤسسات السياسية والمجتمعية والأمنية قوية قادرة على تجريد الميليشيات من سلاحها وبناء جيش وطني قادر على حفظ وحدتها وأمنها الداخلي والخارجي.
***
مليكة بوضياف ـ دكتوراه في علوم سياسية، من كلية الحقوق والعلوم السياسية، الجامعة الجزائرية
__________________