زاهي بشير المغيربي

تهدف هذه الورقة إلى التركيز على أثر أزمات بناء الدولة ومعالجة قضايا المرحلة الانتقالية والعملية الدستورية على التعايش السياسي والسلم المجتمعي في ليبيا.

وسوف تحاول الورقة دراسة التحديات التي تواجه التعايش المجتمعي والسياسي الناجمة عن أزمة بناء الدولة والتحول الديمقراطي في ليبيا بعد السابع عشر من فبراير 2011 وانعكاس التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للنظام السياسي الليبي منذ الاستقلال عام 1951 على هذه التحديات والأزمات. ويتعين في البداية التعرض لمفهوم التعايش بشكل مختصر.

يعني التعايش في جوهره تعلم العيش المشترك وقبول التنوع، والسمة الرئيسة في تعريف التعايش هي العلاقة مع الآخروالاعتراف بوجوده، حيث إن الاعتراف المتبادل شروط ضروري للتعايش المشترك، سواء على المستوى الفردي أم المجتمعي أم السياسي.

ولقد برز مفهوم التعايش السلميأولا في إطار العلاقات الدولية والصراع بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية خلال خمسينيات وستينيات القرن الفائت.

ويستند على الدعوة لأن يكون الصراع بين القطبين المتنافسين صراعا سلميا ولا يتم اللجوء إلى استخدام القوة والحرب. وهو يرتكز على الأسس التالية:

  • الاحترام المتبادل لسيادة الدول وسلامة أراضيها؛

  • وعدم الاعتداء؛

  • وعدم التدخل في الشؤون الداخلية؛

  • والمساواة؛

  • وأخيرا المصالح المتبادلة.

وبالنظر إلى واقع الانقسامات والصراعات العرقية والطائفية والقبلية والجهوية والسياسية في عدد كبير من دول العالم المعاصر، وتأثير هذه الانقسامات والصراعات على الاستقرار المجتمعي والسياسي وعلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فقد تنامت الأدبيات التي قامت بتطبيق مفهوم التعايش على العلاقات بين مكونات المجتمع الواحد والدولة الواحدة.

وعلى هذا الأساس، أصبح التعايش أحد مرتكزات الدولة المدنية الديمقراطية، وعنصرا جوهريا في بناء السلم والأمن المجتمعي والأهلي. ويتعين التعايش في اكتشاف المساحات المشتركة بين الأطراف المختلفة، وهذه المساحات المشتركة تمثل الجسور الممتدة ونقاط اللقاء بين كل الأطراف.

وبهذا المعنى، فإن التعايش مساحة اجتماعية مشتركة بعيدا عن نزعات الاستحواذ والإقصاء وعن محاولات جعل المجال العام حكرا على طرف من الأطراف، وحيث يكون التفاعل مؤسسا على قاعدة احترام التعدد والاختلاف التي تعني، في إطار المجال العام، العيش المشترك والمتساوي بين جميع الأطياف.

ولكن هذا لا يعني أن من شروط التعايش أن يتخلى أحد الأطراف عن قناعاته الفكرية لصالح قناعات الطرف الآخر، بل أن يذهب الجميع إلى المساحة المشتركة ويوظف قناعاته وخصوصياته الثقافية للمساهمة بإيجابية في إثراء المساحة والمجال المشترك“.

ويستلزم التعايش السياسي تطوير نظام الحكم ومؤسساته وقوانينه بحيث يمكنها استيعاب أشكال التنوع والتعدد الاجتماعي والسياسي، وتعزيز حظوظ التعايش المجتمعي والسلم والأمن الأهلي.

وهذا يعني البحث عن أشكال الحكم الدستورية التي تتنوع من الإدارة المحلية إلى الحكم المحلي إلى الفيدرالية وإلى حتى الحكم الذاتي، وعن أنواع النظم الانتخابية، التي تستجيب لمقتضيات التنوع والتعدد الاجتماعي والسياسي بصورة أفضل وبما يخدم التعايش السلمي في المجتمع والدولة.

بعبارة أخرى، لا يمكن أن يوجد تعايش حقيقي دون وجود دولة قادرة وفاعلة، لكونها المؤسسة الرئيسة المنوط بها تنظيم العلاقات في المجتمع بمختلف مناحيها، وبسط سلطة القانون بالتساوي، وصياغة مشروع وطني جامع لكل الأطراف والمكونات“.

 تحديات التعايش في ليبيا: أزمة بناء الدولة

منذ خمسينيات القرن العشرين، شغلت قضايا التخلف والتحديث والتنمية حقل السياسة المقارنة، وتعددت وتباينت مقاربات دراسة التنمية السياسية بتعدد وتباين المنظورات الفكرية لأنصار هذه المقاربات، بحيث أصبح هناك منظور ليبرالي للتنمية ومنظور محافظ للتنمية ومنظور راديكالي للتنمية تختلف بشكل كبير في مقدماتها وعملياتها ونتائجها.

وبحسبان طبيعة موضوع هذه الورقة فإن المقاربة المناسبة لتناول تحديات التعايش في ليبيا هي المقاربة التي تركز على مشاكل وتحديات بناء الدولة الحديثة الديمقراطية المدنية وتحقيق التنمية السياسية، وأعني بذلك منظور التحديث والتنمية السياسية الذي اهتم بشكل مباشر، عبر صياغته لمجموعة من الافتراضات والتصورات، بمحاولة تفسير أنماط تطور المجتمعات والدول المختلفة بصفة عامة، ومجتمعات ودول العالم الثالث بصفة خاصة، وتحولها الديمقراطي.

وقد اقترحت هذه الأدبيات أن أنماط التنمية والتحول الديمقراطي يمكن تفسيرها من خلال الطريقة التي واجهت بها الأمم والمجتمعات تحديات بناء الأمة وبناء الدولة وكيف قامت بحلها، وأطلقت على هذه التحديات تعبير الأزمات وحددتها بخمس أزمات هي: الهوية والشرعية والتغلغل والتوزيع والمشاركة.

وقد ركزت أدبيات التنمية السياسية على تحديد كيفية تعاقب وتتابع هذه الأزمات وكيفية مواجهتها في المجتمعات المختلفة، وهل كان ذلك بطريقة متزامنة أم في فترات متعاقبة، وإذا كانت قد واجهتها في فترات متعاقبة فكيف كان ترتيب هذا التعاقب.

وعلى أساس التحليل المقارن، اقترحت الأدبيات أن التعاقب الأمثل في مواجهة المشاكل هو معالجة مشكلة الهوية ثم الشرعية ثم التغلغل ومن بعدها التوزيع والمشاركة، كما تبيّن أن حل إحدى هذه الأزمات في فترة زمنية معينة لا يمنع إمكانية بروزها من جديد في فترة زمنية لاحقة حسب تغير الظروف والأحداث.

وغني عن البيان، أن الأوضاع الحالية في ليبيا تشي بغياب يكاد يكون كاملا لمؤسسات الدولة وعوز تام للأمن والقانون وبالتالي للسلم المجتمعي والآمان الأهلي، وأن المجتمع والدولة الليبية تواجه الآن معظم أزمات بناء الدولة في وقت متزامن ما يفاقم تأثيرها ومترتباتها.

يتبع

***

زاهي بشير المغيربي ـ استاذ شرف العلوم السياسية

______________

المصدر: منصة القانون والمجتمع في ليبيا

مقالات مشابهة