زاهي بشير المغيربي

الملاحظ أن هناك تساؤلات كثيرة حول الهوية، ومشاكل ملحة حول الشرعية، وعوز واضح في تغلغل مؤسسات الدولة، وعجز كبير في قدرات الدولة التوزيعية، وشكوك حاضرة حول جدوى المشاركة السياسية وتأثيرها على القرار السياسي واتجاهاته.

***

أولا– أزمة الهوية

يعتمد نجاح النظام السياسي في مواجهة تحديات التنمية والتحول الديمقراطي في قدرته على خلق درجة عالية من الاندماج الأفقي، أي بناء الأمة أو تشكيل هوية وطنية مشتركة من مجموع الهويات الطائفية والعرقية والجهوية والقبلية الأولية. ولا يعني وجود الهوية الوطنية وعلويتها على سواها من الهويات الأخرى بالضرورة إلغاء أو إقصاء أو تجاهل أو هجر كل مصادر الانتماء الأخرى، بل يعني ضرورة استيعابها ضمن إطار الانتماء والهوية الوطنية.

ما يميز الهوية الوطنية عن الهويات الأخرى جمعيها أنها هوية عامة وجامعة ترتبط بالكيان السياسي للدولة، بينما الهويات الأخرى هويات جزئية (تحت وطنية).

فلا سبيل لترسيخ العمليات السياسية الديمقراطية إلا إذا اقتصرت أهمية وتأثير الولاءات العرقية والطائفية والجهوية والقبلية على المجال الخاص، وسادت قيم الالتزام بمواطنة عامة ومشتركة.

لأنه عندما تكون الانقسامات العرقية والطائفية والجهوية والقبلية حادة وعميقة وعنيفة، لا يكون هناك معنى للهوية السياسية المشتركة، وتصبح عملية الدمقرطة أمراً عصيا.

ولقد برزت أزمة الهوية الوطنية الليبية منذ تأسيس الدولة الليبية الحديثة عام 1951. فلقد كان مفهوم الهوية الوطنية الليبية غائما، وكانت هناك ضرورة ملحة لتشكيل مثل هذه الهوية بصورة تتجاوز الهويات المحلية والمناطقية والقبلية السائدة آنذاك.

وكانت الأداة المناسبة للقيام بذلك هي المؤسسة التعليمية. والتعليم مهم جدا وأساسي لأي دولة. وتبرز أهميته من كونه وسيلة للتنشئة والتوحيد في الوقت نفسه.

وتشير دراسات التنشئة السياسية إلى أنه من الأسباب الرئيسة للاهتمام بالتعليم هو خلق الإحساس بالهوية الوطنية والانتماء للدولة ومؤسساتها. وقد عملت المؤسسة التعليمية في ليبيا، عبر المقررات الدراسية، خاصة مقررات العلوم الاجتماعية والتربية الوطنية المصرية التي كانت تُدرس في المدارس الليبية معظم فترة العهد الملكي، على غرس قيم ورؤى النظام الناصري حول القومية العربية والوحدة العربية.

وبالتالي تكونت هوية قومية ترتبط بالأمة العربية بين الأجيال الطالعة. ولم يكن هناك تركيز على الهوية الوطنية الليبية إلا في فترة متأخرة من العهد الملكي في1968، أثناء حكومة عبد الحميد البكوش.

وهكذا، كان تشكُل الهوية، من منظور الهوية الوطنية الليبية الجامعة، تشكلا شائها حيث تكونت الولاءات والانتماءات من عناصر مناطقية وجهوية وقبلية تحتوطنية ومن مكونات قومية وإسلامية فوقوطنية. ولم يكن ذلك ضمن هوية وطنية ليبية جامعة، بل على حسابها وضدها في كثير من الأحيان.

ولقد أطلت هذه الأزمة برأسها من جديد هذه الأيام. فقد أثارت الانقسامات على المستوى النخبوي التي شاعت بعد ثورة فبراير فتنا واحترابات ما فتئت تسهم في تمزيق النسيج الاجتماعي.

فسؤال الهوية، في الحالة الليبية، لم يحسم بعد، أقله على مستوى النخب السياسية والفاعلين على الأرض. ويتضح ذلك على سبيل المثال من الانقسامات الحالية في المجتمع الليبي بين جماعات ومناطق تتمسك بهوياتها المحلية وتجعل لها الأولوية على الهوية الوطنية الليبية، وبين جماعات التطرف الإسلامي التي ترفض الاعتراف بالهوية الوطنية والدولة الليبية من الأساس وتدعو إلى هوية إسلامية فوقوطنية.

ومع تشبث كل طرف بمواقفه واستعداده لتوسل العنف تحقيقا لغاياته، يصبح الحديث عن التعايش المجتمعي والسياسي وحظوظه في التحول إلى واقع عيان يكاد يكون ترفا أكاديميا زائدا.

ويضاف إلى ذلك أن عمليات التنشئة السياسية خلال العقود الأربعة الأخيرة أنتجت ثقافة سياسية شائهة تتميز بوعي سياسي متخلف وميول تخوينية إقصائية. وتبرز أهمية ذلك من حقيقة أن الثقافة السياسية تشمل ضمن مكوناتها توجهات الأفراد حول الأفراد والجماعات الأخرى وحول أنفسهم كأعضاء في جماعة.

فهل ينظر الأفراد إلى المجتمع على أنه منقسم إلى طبقات اجتماعية أو جماعات جهوية أو نجمعات عرقية؟

وهل يعبرون عن انتمائهم لشيع أو أحزاب بعينها؟

وما مشاعرهم تجاه الجماعات التي لا ينتمون إليها؟

إن مسألة الثقة بالجماعات الأخرى ستؤثر على الرغبة في العمل مع الآخرين من أجل أهداف سياسية وعامة، إلى جانب تأثيرها على رغبة النخب والزعماء في تشكيل تحالفات وائتلافات مع الجماعات الأخرى.

ثانيا– أزمة الشرعية

ليس في وسع أي مجتمع ديمقراطي أن يستمر طويلاً ما لم يكن يتمتع بشكل من أشكال الشرعية. والشرعية مفهوم يصعب تحديده وقياسه، غير أنه يمكن فهمه بصورة أفضل إذا ما جُزئ إلى ثلاثة مكونات:

الشرعية الجغرافية:

وتعني أن الذين يعيشون ضمن نطاق الدولة يقبلون حدودها الإقليمية أو لا يعارضونها إلا عبر الوسائل الدستورية. إذا لم يحس الأفراد والجماعات بشرعية الإطار الجغرافي للدولة فسوف تتعرض العمليات السياسية الديمقراطية للتهديد، وفي الحالات المتطرفة قد يأخذ التهديد شكل حركات انفصالية.

وعندما لا تتوفر للجماعات وسائل ديمقراطية لتحقيق الانفصال، فمن غير المحتمل أن يلتزموا بالعمليات الديمقراطية، ويصبح العنف أمراً محتما تقريباً.

وفي ليبيا، ظهرت دعاوى إرهابية متطرفة ترفض فكرة الدولة، بل ترفض عملية التحول الديمقراطي بمجملها. وبسبب عمليات التهميش التي مارسها النظام السابق، واستمرارها بعد ثورة فبراير، ظهرت دعاوى انفصالية.

وفي الحالين، ثمة تشكيك صريح أو مضمر في شرعية الإطار الجغرافي للدولة والهوية الوطنية المشتركة.

الشرعية الدستورية:

وتشير إلى القبول العام للقواعد التي تحدد تنظيم وتوزيع القوة السياسية والتنافس عليها. ويمثل تأسيس القواعد الدستورية أحد أصعب جوانب عملية الدمقرطة لأن عملية التحول الديمقراطي تفتح المجال لمدى واسع من المصالح المتنوعة والمتعارضة، وكل مجموعة تسعى لمعرفة كيفية تأثير الترتيبات الدستورية الجديدة على مصالحها وضمان حماية هذه المصالح.

وتعكس الأحداث الأخيرة وصراعات الهيأة التأسيسية عمق الخلافات حول طبيعة الترتيبات الدستورية ونوع نظام الحكم المنشودفيدرالي أم غير فيدرالي، ملكي أم جمهوري، برلماني أم رئاسيوغيرها من الخلافات التي تكاد تعصف بمكونات العيش المشترك.

الشرعية السياسية:

وتشير إلى المدى الذي يعتبر المواطنون وفقه أن لدى السلطات القائمة الحق في تولي السلطة. ويمكن إقرار أن الحكومة تتمتع بشرعية سياسية عندما تعكس نتائج الانتخابات التنافسية تفضيلات الناخبين وفقاً للقواعد والترتيبات الدستورية والمؤسسية. “غير أننا لا نعدم وجود من يشكك في أحقية نظام الحكم القائم في المرحلة الانتقالية في تولي السلطة لمجرد أن حزبه أو عشيرته أو ميلشيته لم يرض على توليه إياها. في زمن الاضطرابات الأمنية لا تكفي تفضيلات الناخبين لتحديد القائمين على إدارة الدولة، وحين تخسر بعض التيارات السياسية عبر صناديق الاقتراع، قد تلجأ إلى صناديق الذخيرة لتذود بها عن مصالحها.

وقد بلغ هذا النوع من التشكيك في الشرعية ذروته حين رفض المؤتمر الوطني العام تسليم السلطة لمجلس النواب المنتخب، بما أفضى إليه ذلك من اندلاع اشتباكات مسلحة عنيفة، وما نتج عنه من وجود مجلسين تشريعيين وحكومتين تنفيذيتين تتنازع السلطة والشرعية. هذا إلى جانب الصراع حول الحوار والتوافق وحكومة الوفاق الوطني.”

وعلى هذا النحو، يستبين أن مسألة الشرعية، بمختلف تجلياتها، قد تهدد بإجهاض عملية التحول الديمقراطي، بل بدخول البلاد في نفق قد يودي بها إلى الانضمام إلى قائمة الدول الفاشلة، وما لذلك من انعكاسات سلبية على إمكانات العيش المشترك.

يتبع

***

زاهي بشير المغيربي ـ استاذ شرف العلوم السياسية

______________

المصدر: منصة القانون والمجتمع في ليبيا

مقالات مشابهة