أسامة علي
لا تزال الحكومتان في ليبيا، حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس وحكومة مجلس النواب في الشرق الليبي، تتبادلان الاتهامات منذ أن فجّر بيان المصرف المركزي، يوم الأحد الماضي، فضيحة الإنفاق الحكومي لعام 2024 بحجم 224 مليار دينار (نحو 46 مليار دولار):
132 مليار دينار أنفقتها الحكومة في طرابلس، و59 مليار دينار أنفقتها الحكومة في بنغازي. واللافت أن كلتا الحكومتين استندت في اتهامها للأخرى إلى “الشرعية“.
فالحكومة في العاصمة تعتبر نفسها الشرعية بحكم الاتفاق السياسي الذي رعته الأمم المتحدة في عام 2021، وبالتالي فإن الحكومة في بنغازي من وجهة نظرها موازية وغير شرعية، فيما تعتبر الأخيرة نفسها الشرعية لأن مجلس النواب شكّلها بعدما سحب الثقة من حكومة الوحدة.
تحول الفساد في ليبيا إلى نظام مقنن تحت شرعية القانون لم يكن وليد اليوم، بل تمّت شرعنته من قبل أعلى السلطات التشريعية في البلاد. فرغم انتهاء ولاية المؤتمر الوطني العام في عام 2014، وتولي مجلس النواب مكانه، إلا أنهما عادا إلى المشهد (البرلمان ولاحقاً أيضاً المجلس الأعلى للدولة) تحت مظلة الحوار السياسي الذي أطّرته الأمم المتحدة في اتفاق الصخيرات عام 2015.
ولا يزال المجلسان في المشهد رغم أن هذا الاتفاق حدّد وجودهما بعام واحد يتفقان خلاله على إطار قانوني لإجراء الانتخابات. أما ذريعة بقائهما فهي أنهما لم يتفقا بعد على القوانين الانتخابية، ومنذ ذلك الوقت تشير بيانات المصرف المركزي المتلاحقة إلى وصول إنفاق المجلسين لأكثر من 100 مليار دينار.
ولم تكن الأجسام السياسية الأخرى في ليبيا بمنأى عن هذا المسار، فالمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة ما زالا يسيطران على مقاليد السلطة رغم أن اتفاق جنيف في عام 2021 قضى بإنهاء ولايتهما في يونيو/حزيران من عام 2022، إلا أنهما بقيا في المشهد بحجة عدم التوصل إلى حلّ للخلافات حول القوانين الانتخابية. وطيلة هذه المدة، أنفقا أموالاً أقل ما يوصف حجمها بأنه مرعب.
أما اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي منحه مجلس النواب شرعية تشكيل قيادة الجيش في 2015، فيمثل أكبر نماذج الحكم الغامض في تاريخ البلاد. فمنذ عيّنه مجلس النواب، ظلت هيكلية قواته وتمويلها وعلاقاتها الخارجية طيّ الكتمان وفوق المحاسبة. ورغم تبعيته أيضاً للبرلمان، إلا أنه لم يستدع ولا مرة لمساءلته عن مصادر تمويله وكيفية إنفاقها.
والواقع أن هذا الفساد المشرعن لم يكن وليد اليوم، بل يعود إلى مجلس النواب نفسه الذي أسّس لقوننة الفساد بأول قانون له صاغ فيه لائحته الداخلية حين منح لنفسه حصانةً مطلقة تجعله “فوق المراقبة“. ووفقاً لنصوص قانون لائحته، هو الذي يقر ميزانيته كل عام وهو من يقفلها دون أي رقابة، لكونه أعلى سلطة في البلاد.
ولم يتوقف حجم الفساد عند إنفاقه اللامحدود، بل تعداه إلى الإفساد أيضاً، ليطاول الإطار الدستوري للدولة، فقد عدّل الإعلان الدستوري (دستور مؤقت) 13 مرة في غضون 10 سنوات وحوّله إلى أداة لخدمة مصالحه.
واستناداً إلى شرعيته التي يقفز فيها بين بقائه في المشهد استناداً لاتفاق الصخيرات وبين كونه منتخباً من الشعب، أصدر مجلس النواب عشرات القرارات التي حصّنت الفساد وحولته إلى قوانين ملزمة، بدءاً من قانون إنشاء قيادة حفتر عام 2015 ومنحه صلاحيات مطلقة دون حسيب ولا رقيب، وصولاً إلى قانون إنشاء “صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا” مطلع العام الماضي، الذي عيّن له بلقاسم، نجل حفتر، بنصوص واضحة تمنح إدارته استقلالاً تاماً بعيداً عن أي رقابة. أما تمويل الصندوق، فهو من خلال ميزانية يقترحها وبأي حجم ويقرّها مجلس النواب.
ومن المفارقات في غضون تصاعد الاتهامات بين الحكومتين، كشفت تقارير خبراء الأمم المتحدة عن شراكة مباشرة بين الحكومة في طرابلس وبين قيادة حفتر من خلال شركة “أركنو للخدمات النفطية“، في صفقة جرت تحت الطاولة.
إذ بينما يملك حفتر مصادر النفط ومواقع تصديره، تملك حكومة طرابلس شرعية قرارات تصدير النفط، فمنح الشركة حق تصدير النفط خارج إطار المؤسسة الوطنية للنفط، الهيئة الشرعية المخولة بتصدير النفط. وخلال الأشهر الأربعة الأخيرة من العام الماضي، صدّرت هذه الشركة نفطاً بقيمة 462 مليون دولار.
_____________