عبد الرزاق البقال
يُعد الخيار الرابع، المسمّى بـ”المسار التأسيسي”، الوارد في تقرير اللجنة الاستشارية، بالفقرة “د” أحد أهم الخيارات التي طُرحت كمقترح واقعي لإنهاء المرحلة الانتقالية في ليبيا ووضع أسس لمسار ديمقراطي مستدام. ورغم تعقيداته، فإنه يبقى الأقرب والأصلح للتنفيذ، شريطة إدخال تعديلات جوهرية تضمن نجاحه وانسجامه مع طبيعة الأزمة الليبية.
يقوم هذا الخيار على تفعيل آلية الحوار السياسي، استنادًا إلى المادة (4) من الإعلان الدستوري، والمادة (64) من الاتفاق السياسي الليبي الموقع في الصخيرات، وما نتج عنه من مخرجات ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف.
ويهدف التفعيل إلى تشكيل لجنة حوار سياسي تُعهد إليها مهمة تأسيس مجلس تأسيسي يتولى قيادة المرحلة الانتقالية.
لكنّ هذا الخيار لا يمكن أن يُنفذ بشكل تلقائي، إذ يشترط توافر تسوية سياسية شاملة تضمن الخروج المتزامن لجميع الفاعلين المؤسسيين المتصارعين، وضمان عدم قدرتهم على عرقلة المسار التأسيسي.
هذا الخروج المتزامن، واستبعاد الأجسام القائمة، يستند من حيث الشرعية القانونية إلى مجلس الأمن الدولي، الذي تُستمد منه شرعية هذه الأجسام أصلًا عبر اتفاق الصخيرات، الذي أصبح منذ توقيعه القاعدة القانونية المرجعية الوحيدة التي تستند إليها تلك الشرعية.
من الناحية الإجرائية، يتضمن المقترح تشكيل مجلس تأسيسي من ستين عضوًا، تتوفر فيهم الكفاءة والنزاهة، ويُمثلون مختلف فئات المجتمع بعدالة وتكامل.
يتولى هذا المجلس مؤقتًا الصلاحيات التشريعية، ويعتمد دستورًا مؤقتًا، ويشكل سلطة تنفيذية مؤهلة، ويعيد تشكيل المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، ويُشرف على تنظيم انتخابات تشريعية لاحقة، دون أن يُسمح لأعضائه بالترشح فيها.
كما يتولى هذا المجلس مسؤولية تفعيل مؤسسات الدولة، وتوحيدها، وتعزيز الحكم الرشيد، ودفع مسارات المصالحة الوطنية.
ومع ذلك، فإن هذا المسار لا يُمكن أن ينجح ما لم يُربط ببُعد أعمق وجوهري، وهو ضرورة تأسيس عقد اجتماعي جديد، يكون بمثابة الوثيقة التأسيسية التي تُنهي حالة اللاتعاقد التاريخي بين الدولة والمجتمع الليبي.
إذ أن ما تعيشه ليبيا اليوم هو نتاج أزمة ثقة عميقة، سببها غياب هذا العقد.
فغياب التوافق على شكل الدولة، ونظام الحكم، وآليات إدارة الثروة، أدى إلى أن تلجأ المكونات المجتمعية لحماية نفسها بشكل منفصل، وأن تتنازع الأجسام على مصادر السلطة والثروة، مما أنتج صراعًا مستمرًا وفسادًا ممنهجًا.
بناء العقد الاجتماعي لا يعني فقط كتابة دستور جديد أو التوافق على النظام السياسي، بل هو في جوهره عملية مصالحة وطنية شاملة.
إنه الإطار الذي تستعيد فيه الدولة ثقة المواطن، ويشعر فيه الجميع بأنهم جزء من مشروع وطني واحد.
وهذا الإحساس بالثقة والانتماء هو ما يُعيد للدولة قدرتها على احتكار السلاح والثروة والسلطة بشكل مشروع وسلمي.
فوجود الميليشيات أساسًا هو انعكاس لانعدام الثقة في الدولة، وغياب التوافق على مشروعها.
ولذلك، فإن أي مسار تأسيسي لا يربط آليًا بمسار العقد الاجتماعي سيكون معرضًا للفشل أو لإعادة إنتاج الأزمة نفسها في شكل جديد.
كما أن المدة المقترحة في هذا الخيار، والمحددة بـثمانية عشر شهرًا، تُعد غير واقعية في السياق الليبي.
فحجم الانقسام، وتعدد الفاعلين، وعمق الفجوة بين الأطراف، كلها عوامل تستوجب تمديد المرحلة التأسيسية إلى حدها الأقصى المنصوص عليه دوليًا للانتقال، أي خمس سنوات. وهذه المدة يجب ألا تُستخدم كمبرر لاستدامة الأجسام أو تثبيت سلطات أمر واقع، بل يجب أن تكون مرحلة مفوضة بمهام تأسيسية واضحة، ومحددة الولاية، وتخضع لرقابة صارمة.
ويمكن في هذا السياق الاستفادة من تجربة المجلس الوطني الانتقالي خلال ثورة 17 فبراير، باعتباره مثالًا على كيان تأسيسي استطاع أن يوفّر غطاء سياسيًا ودستوريًا لمرحلة انتقالية حاسمة.
فرغم التباينات، فإن تلك التجربة تحمل بعض العناصر الإيجابية التي يمكن توظيفها في تصميم هذا المسار التأسيسي الجديد، خصوصًا من حيث تمثيل المناطق والفاعلين، والقدرة على اتخاذ قرارات تأسيسية بحس وطني جامع.
إن المسار التأسيسي، إذا ما تم تعديله وربطه ببناء عقد اجتماعي شامل، وضُبطت مدته وضماناته، قد يُشكل الإطار الأكثر منطقية لإنقاذ ليبيا من الحلقة المفرغة للصراع، وتأسيس دولة مدنية ديمقراطية تمثل جميع الليبيين.
________________