الحبيب الأسود
الأحداث أثبتت أن من يتراجع إلى الوراء قليلا يُجهَز عليه وأن من يتخلى عن سلاحه يُرمى بالرصاص ومن يثق بالسلطة يكون مصيره كمصير غنيوة الككلي الذي تعرض للتصفية غدراً.
في الوقت الذي تنتقل فيه حنّا تيتيه، بصفتها رئيسة البعثة الأممية إلى ليبيا، بين العواصم الخارجية، وتقود مشاورات داخلية استعداداً لعرض خارطة الطريق الجديدة على مجلس الأمن في الحادي والعشرين من أغسطس الجاري، تتسع دائرة المشككين في الخطوة، ومن يعتبرونها مجرد حبة “بانادول” لتسكين حالة الصداع التي لا تزال تضرب البلاد منذ أربعة عشر عاماً في غياب إرادة داخلية وخارجية لتجاوز الأزمة.
ظاهرة التشكيك لها ما يبررها، وخاصة أن البعثة تعكس في الأخير موقف مجلس الأمن وفق حسابات وأجندات الدول الأعضاء التي تبدو غير مستعدة للاتفاق حول مستقبل البلد العربي الثري في شمال أفريقيا، ذي المساحة الشاسعة والموقع الإستراتيجي المهم والتأثير البالغ في الخارطة الجيوسياسية.
إيطاليا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وروسيا وتركيا ومصر والجزائر وغيرها من القوى الدولية الكبرى والإقليمية الصاعدة لا تبدو مستعدة للاتفاق حول حل عملي للأزمة، وبعضها يرى أن الوضع الحالي قد يكون أفضل بالنسبة إليها. كل طرف ينتظر لحظة الانفراد بالمصلحة أو حصرها في إطار أضيق من التحالفات.
مجلس النواب المنعقد في شرق البلاد غير مستعد للقبول بأيّ خارطة طريق لا تتضمن تشكيل حكومة موحدة على أنقاض حكومة الوحدة المنتهية ولايتها في طرابلس، أو تنظيم انتخابات من خارج القوانين الصادرة عنها، والتي يرفضها تيار فبراير والراغبون بوضوح في إقصاء العسكريين ورموز النظام السابق.
عبدالحميد الدبيبة غير مستعد للتنازل عن مقاليد الحكم لأيّ حكومة جديدة حتى ولو كانت موحدة، مدعومة من المجتمع الدولي، وتهدف إلى إدارة مرحلة تثبيت الوضع النهائي عبر تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية تفرز سلطات تنفيذية وتشريعية تحظى بالشرعية الشعبية.
والدبيبة متمسك برؤيته للمرحلة القادمة، حيث يطالب بتنظيم استفتاء شعبي على مسودة الدستور والمضي نحو انتخابات برلمانية تنتج عنها حكومة مؤهلة لتنظيم الانتخابات الرئاسية. ولديه من يساندونه في هذا التوجه، وخاصة ممن يجدون مصالحهم في استمرار الوضع على ما هو عليه.
لديه كذلك ميليشيات نشطة على الأرض يمكن أن تدفع بالبلاد إلى مربع العنف والفوضى الجديد، بما يؤدي مباشرة إلى تعطيل أيّ خارطة طريق لا تخدم مصلحة السلطات الحالية في طرابلس.
الدبيبة ينظر إلى السلطة كغنيمة حرب، وهو يعتقد أن البقاء دائماً للأذكى وليس للأقوى، وللقادرين على التكيف مع الظروف واللعب على حبال التوازنات الإقليمية والدولية.
حالياً يبدو الدبيبة قادر على ممارسة حركاته الأخطبوطية في اتجاهات عدة، وقد وجه رسائل واضحة إلى الحلفاء الغربيين بأنه الأقدر على تأمين مصالحهم، وأنه مستعد لتقديم هدايا ثمينة لكل من يدعم رغبته في التمسك بالسلطة.
من يتابع المشهد الليبي يدرك أن للدبيبة ماكينة قوية مزودة بقدرات مالية ضخمة، ولديها القدرة على تزوير الحقائق وفبركة الوقائع وتشويه الخصوم، وهي لا تعرف الرحمة عندما تحتاج إلى ممارسة الفرم في لحظة الحسم.
كما حدث عندما تمت التضحية بوزيرة الخارجية نجلاء المنقوش بتحميلها المسؤولية كاملة عن فتح جسور التواصل مع إسرائيل، أو عندما سلمت حكومته المواطن أبوعجيلة المريمي، الضابط السابق في جهاز الأمن الخارجي، إلى واشنطن لمحاكمته بتهمة التورط في تفجير قنبلة على متن رحلة “بان أميركان 103” فوق لوكربي الأسكتلندية عام 1988، ما أسفر عن مقتل جميع ركابها البالغ عددهم 259، إضافة إلى 11 شخصاً على الأرض.
تم تسليم المريمي إلى الولايات المتحدة رغم أن ملف القضية سبق وأن أغلق جنائياً وسياسياً قبل أكثر من عشرين عاماً، ولكن الدبيبة رغب في تقديم هدية للجانب الأميركي، وعندما غضب منه الليبيون خرج على الإعلام ليزعم ببساطة أن المريمي تونسي الجنسية في محاولة بائسة للتنصل من مسؤوليته الأخلاقية.
في الرابع من يوليو الماضي توفي عبدالمنعم المريمي، ابن شقيق الضابط المحتجز بالولايات المتحدة والمدافع الأبرز عنه، في ظروف غامضة بعد اعتقاله من قبل السلطات واستجوابه على خلفية احتجاجات في طرابلس.
الدبيبة يستفيد من عدم جاهزية أطراف أخرى للحل السياسي في ليبيا: الميليشيات المنتشرة في غرب البلاد غير مستعدة لتسليم سلاحها.
وبمرور الوقت تحولت إلى مؤسسات ذات أذرع أمنية ومالية واقتصادية، ولدى قادتها مصالح ليسوا على استعداد للتفريط فيها، لاسيما أن الأحداث أثبتت أن من يتراجع إلى الوراء قليلاً يُجهَز عليه، وأن من يتخلى عن سلاحه يُرمى بالرصاص ككلب ضال في شارع خلفي، ومن يثق بالسلطة يكون مصيره كمصير غنيوة الككلي الذي تعرض للتصفية غدراً في معسكر التكبالي يوم 12 مايو الماضي عندما لبى دعوة للحوار من أجل حل الخلافات بينه وبين فريق الدبيبة.
مافيا الاعتمادات والمضاربة بالعملة في “سوق المشير” وهوامير المال العام المحسوبون على السلطة الحالية، وتيار دار الإفتاء بزعامة الصادق الغرياني الذي تحول بدوره إلى قوة مؤثرة داخل منظومة الحكم، غير مستعدين لأيّ تغيير لا يخدم مصالحهم التي يرون أنها مرتبطة أساساً بضعف الدولة وبحاجة الدبيبة إليهم في تمديد فترة حكمه أو اعتبارها المنوال الذي يمكن النسج عليه.
القوى الإقليمية والدولية غير مستعدة لأيّ حل سياسي في ليبيا لا ترى أنه يخدم مصالحها. عواصم عدة عملت على عرقلة الاستحقاقات الانتخابية التي كانت مقررة في ديسمبر 2021 خشية أن تفرز سلطات جديدة تستعيد سيادة الدولة وتحفظ مقدراتها وتقطع أيادي اللصوص وتغلق أبوابها في وجه التدخلات الخارجية.
الدبيبة لا يفلت فرصة لقاء مع أيّ مسؤول أو مبعوث أميركي أو أوروبي دون أن يحذره من إمكانية سيطرة تيار النظام السابق أو أنصار الجيش الوطني على أيّ سلطة قادمة.
غير المستعدين لحلحلة الأزمة قد يبدون أقلية مقارنة بالشارع الليبي، ولكنهم أصحاب القرار والمسيطرون على الثروة والسلاح والسلطة التي نراها مفككة ويرونها متماسكة طالما هي متمسكة بالحكم إلى أجل غير مسمى.
______________