جاسم العزاوي
بعد أكثر من عقد من مقتل القذافي، تقع ليبيا محاصرة بين دمار الثورة وحلم إعادة الإعمار. ما كان يُروج له ذات يوم على أنه فجر الحرية تحول إلى جمود قاسٍ: حكومتان متنازعتان، وبرلمانان بلا دور، وشعب ليبيا مبعثر.
تحت الرمال، يكمن أغنى مخزون نفطي في أفريقيا، لكن هذا الثراء النفطي لم يكن مصدر وحدة، بل سبب تدهور البلاد.
أدى وقف إطلاق النار في عام 2020 إلى إسكات الأسلحة، لكنه لم يُنهِ حالة الانقسام. وما زالت المؤسسات متداعية، والسلطة مقسمة بين زعماء الميليشيات.
يعيش الليبيون في ظروف صعبة من جوع وفساد وخوف، ويلاحقهم شبح العنف. هل تستطيع ليبيا، الغارقة في الثروة والمنقسمة سياسيًا، أن تستعيد عافيتها؟
حكومتان، دولة واحدة: بلد منقسم
تعاني ليبيا من تبعات انقسامها. عرشان، وحكومتان تدعيان الشرعية.
في طرابلس، تسيطر حكومة الوفاق الوطني، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، على الغرب.
وفي بنغازي، تسيطر حكومة الاستقرار الوطني، المدعومة من مجلس النواب وقوات حفتر، على الشرق. تتحكم الميليشيات والقوى الأجنبية في زمام الأمور، وتستغل موارد البلاد.
هذا التنازع على السلطة يعيق الحكم، ويقمع الانتخابات، ويقوض الأمل. على الورق، ليبيا دولة واحدة، لكن في الواقع، هي كيان سياسي منقسم، عالق في حالة جمود مستمر.
ثروة النفط، فقر سياسي: لعنة الموارد في ليبيا
تملك ليبيا أكبر احتياطي نفطي في أفريقيا، 48 مليار برميل. لكن هذا الثراء لم يكن نعمة، بل لعنة. تستغل الفصائل المتحاربة النفط لتمويل ميليشياتها.
يعيق الحصار والتخريب الإنتاج، ويحول النفط إلى رهينة. تتقلب الشركة الوطنية للنفط بين العاصمتين، بينما تزدهر تجارة التهريب. هذا الذهب الأسود، الذي كان من المفترض أن يبني، أصبح سلاح دمار.
تعمل الشركات الأجنبية في ظل هذا الفوضى، لكن دون دولة قوية، يصبح الربح نهبًا. تحت الصحراء ثروة، وفوقها دمار. نفط ليبيا يغني الجميع إلا الليبيين.
تأجيل الانتخابات، وديموقراطية مُنكرة
لم تشهد ليبيا انتخابات حقيقية منذ عام 2014، على الرغم من وعود لا تنتهي ومخططات الأمم المتحدة البائسة.
انهارت الانتخابات التي وعدت بها في ديسمبر 2021 وسط خلافات حادة، نتيجة نزاعات حول المرشحين والقوانين. تتصارع الأطراف المتحاربة، خائفة من فوز الطرف الآخر، وتتنازع على الدستور دون اتفاق.
تجري بعض الانتخابات المحلية في القرى، لكن البلاد بأكملها لا تزال صامتة. الشعب، الذي يتوق للتعبير عن رأيه واختيار ممثليه، يُسكت بالتأخير والخداع وعدم الكفاءة.
إن سيادته تُباع من قبل من يخافون من حكم الشعب. بدون إطار قانوني موحد، تبدو الديمقراطية في ليبيا مجرد وهم: مؤجلة ومفسدة ومستحيلة.
أيد أجنبية، وجراح محلية: دور القوى الدولية في النزاع الليبي
لم يعد الصراع في ليبيا شأناً ليبياً داخلياً. تدعم القوى الإقليمية والدولية الحكومتين عسكرياً وتؤثر عليهما.
تلعب إيطاليا وفرنسا، بدافع المصالح النفطية، أدواراً مشبوهة تُسمم أي مسار نحو الوحدة. هذه الدول تُعمق الانقسام، وتُصعّد حالة الجمود، وتُهدد السيادة.
قصف الناتو في عام 2011 أطاح بمعمر القذافي، لكنه خلق فراغاً استغلته القوى الأجنبية. الآن، تقرر القوى الأجنبية مصير ليبيا، وتظهر بصماتها في كل وزارة، وفي كل ميليشيا. أصوات الليبيين مُسكتة، تحت وطأة الطموحات الاستعمارية. السلم لم يُؤجل، بل سُرق.
هدنة أوقفت التقدم
هدنة أكتوبر 2020 في ليبيا، بوساطة لجنة 5+5 العسكرية المشتركة التابعة للأمم المتحدة، أوقفت القتال وأعادت فتح حقول النفط والمطارات. حُسنت هذه الهدنة كخطوة مهمة. لكن وعد الوحدة تحول إلى جمود.
بقيت المرتزقة الأجانب، متجاهلين المواعيد النهائية، بينما انهارت المفاوضات في تبادل الاتهامات. أوقفت الهدنة القتال، لكنها لم تُحقق مستقبلًا.
ما زالت الميليشيات تسيطر على الشوارع؛ وتُعمق الحكومات المتنازعة خلافاتها. ما سُمي بالسلام لم يكن سوى توقف مؤقت، توقف في القتل، وليس خطوة نحو بناء الدولة. السكون ظاهر، لكنه يخفي توترات متنامية، تنتظر الانفجار.
الميليشيات والمال: من يسيطر على ليبيا؟
إن قطاع النفط في ليبيا مُسيطر عليه من قبل زعماء الميليشيات، وليس رجال الدولة. خطوط الأنابيب والمصافي والموانئ كلها تحت سيطرة العصابات المسلحة التي تتظاهر بالحماية.
في طرابلس، تُدمج الميليشيات مثل “الكتيبة 106″ ضمن هياكل الحكومة، في مشهد ساخر يهدف إلى إضفاء الشرعية.
أما في الشرق، فتسيطر قوات حفتر على حقول النفط وتحاصر الموانئ.
وفي قلب هذه الأزمة، يتحول البنك المركزي، الغني بالدولارات النفطية، إلى ساحة صراع بين المصالح المتضاربة، ما يؤدي إلى توقف الإنتاج وهدر مئات الآلاف من براميل النفط.
يتحدث الوزراء ويخطط التقنيون، لكن السلطة الحقيقية تظل في أيدي عناصر الميليشيات. النفط لا يخدم الدولة، بل يخدم الميليشيات.
هل يمكن للنفط أن يوحد ما فرّقته السياسة؟
النفط هو عصب ليبيا، فهو مصدر أكثر من 95% من إيرادات الدولة، ووسيلة البقاء الوحيدة. تدفق النفط، وعودة المستثمرين، وارتفاع الإنتاج، كل ذلك يبدو واعداً.
لكن وراء هذه الأرقام يكمن خطر داهم. فالسياسة المشحونة بالتوترات والصراعات تقوض أي أمل في الاستقرار.
في طرابلس، تعلن حكومة الوفاق الوطني عن توسع نفوذها، بينما في الشرق، تمارس الجماعات المسلحة التي تسيطر على خطوط الأنابيب والموانئ حق النقض عبر عمليات الإغلاق.
في غياب اتفاق لتقاسم الثروة، يولد كل برميل من النفط المزيد من العداء، وكل دينار يُقوي سلطة الفصائل المتصارعة.
كان بإمكان النفط إعادة بناء المدن المدمرة، وتوحيد البلاد الممزقة، وبناء أرضية للتوافق. لكنه أصبح بدلاً من ذلك، وقوداً للصراع.
ليبيا تعيش في دوامة من الأزمات، حيث يبدو الأمل شحيحاً، والواقع قاتم.
يمثل خط الحياة بالنسبة لليبيا في الوقت نفسه مصدراً للخطر، فهو كالقنبلة التي تنذر بالانفجار في أي لحظة.
مسيرة الوحدة الوطنية: هل من أمل؟
تتقدم مبادرات الأمم المتحدة، ومنتدى الحوار السياسي الليبي، ومفاوضات جنيف حول الدستور بخطوات بطيئة، وسط أجواء من عدم الثقة.
تعد اللجان المشكلة من مجلس النواب ومجلس الدولة إطارات قانونية للانتخابات، لكن خلافات حادة حول أهلية المرشحين لا تزال قائمة.
تدخّل القوى الأجنبية يزيد الأمور تعقيداً، وتصر الفصائل المحلية على احتكار الثروة. الهدنة هشة، ولا تبدو أكثر من مجرد وهم.
الوحدة الوطنية ممكنة، لكن بشرط أن يضع الليبيون مصالح الوطن فوق كل شيء.
الطريق موجود، لكنه مليء بالعقبات، ويحتاج إلى إرادة سياسية قوية وحكومة نزيهة.
عقد ليبيا المفقود: دولة في مأزق
منذ سقوط نظام القذافي في 2011، تعيش ليبيا في دوامة من الفوضى والحروب الأهلية وتدهور المؤسسات واستغلال القوى الأجنبية.
تحولت أحلام الديمقراطية إلى سيطرة الفصائل المسلحة والفساد وغياب سيادة القانون.
هجوم بنغازي عام 2012، وهجوم حفتر عام 2019، وإرجاء الانتخابات، كلها علامات على دولة عالقة في أزمة.
ومثل وميض أمل سريع الزوال، سرعان ما يختفي مع استمرار الجشع والطموح.
بدون رؤية مشتركة أو مؤسسات قوية، تظل ليبيا محتفظة بوعدها الكبير رغم ظروفها الصعبة، بما في ذلك أراضيها الصحراوية وثرواتها النفطية.
وفي الوقت نفسه، يبقى شعبها حبيس دوامة من الفشل والعنف والسلام الهشٍّ الوهمي.
________________