أبو القاسم المشّاي
ليبيا اليوم ليست مجرد صراع على الحكم أو نزاع داخلي عابر، بل هي تجربة سياسية وجودية على مفترق طرق.
الدولة فقدت القدرة على تصديق «حكاية الوحدة المركزية»، والأمة تعيش دورة مفرغة من الأزمات، حيث تُعاد الانتخابات كطقوس بلا مضمون، وتُعاد الأزمات كأحداث متكررة، ليظل المشهد نفسه: دولة بلا قرار، وصراع دائم على طرابلس.
النتيجة أن الأزمة الليبية تحولت إلى مرآة لانكسار الدولة وإخفاق المؤسسات.
في هذا الإطار يطرح سؤالاً أساسياً: هل الفيدرالية أو اللامركزية العميقة يمكن أن تكون مخرج ليبيا من مأزق المركزية المستحيلة؟
هذا السؤال ليس تنظيراً أكاديمياً، بل هو استدعاء لتجربة تاريخية: ليبيا بين 1951 و1963 كانت فيدرالية بثلاثة أقاليم، قبل أن تُبتلع بالمركزية الخانقة، ما أدى إلى تراكم الصراعات والانقسامات التي ما زلنا ندفع ثمنها حتى اليوم.
لكن الفيدرالية ليست خياراً سهلاً.
القوى المسلحة والسياسية داخل ليبيا تراها تهديداً لمكاسبها، والإقليمية تعتبرها «عدوى» قد تنتقل إلى بلدانها، بينما دول أخرى تراها وسيلة لتعزيز النفوذ وكلائها.
هنا يبرز قانون الاستقرار أميركي كأداة ضغط سياسية قد تدفع ليبيا نحو إعادة التفكير في شكل الدولة، لكنه في الوقت نفسه يثير سؤالاً مركزياً: هل سيكون هذا القانون دعماً للتحول نحو الفيدرالية، أم أداة لتكريس مركزية مستحيلة؟
قانون الكونغرس: أدوات وتأويلات
القانون الذي أقره الكونغرس تحت عنوان «الاستقرار في ليبيا»، ليس نصاً قانونياً فحسب، بل وثيقة ذات أبعاد سياسية واستراتيجية عميقة.
ينص القانون على فرض عقوبات على المعرقلين، ودعم المؤسسات، وفرض ضغوط مالية لضمان شفافية عائدات النفط. هذه الأدوات يمكن أن تكون فعالة إذا ارتبطت بإرادة ليبية واضحة، لكنها تحمل أيضاً خطر التحول إلى آلية لتعزيز المركزية، خصوصاً إذا غابت الرؤية السياسية الموحدة.
القانون الأميركي يعكس في جوهره رؤية واضحة:
الاستقرار لن يتحقق إلا عبر ضبط المعرقلين وفرض آليات شفافية على موارد الدولة، لكن من دون تحديد واضح لشكل الدولة المستقبلي. هذا الفراغ يفتح الباب لتأويلات متعددة، ويجعل القانون مادة سياسية قابلة للاستخدام لتحقيق أهداف مختلفة، من ضمنها إما دفع ليبيا نحو فيدرالية أو إعادة إنتاج مركزية مشلولة.
الأمم المتحدة: جسر للحل أم عقبة استقرار؟
على المستوى الدولي، تمثل مبادرة الأمم المتحدة محاولة لإعادة ليبيا إلى مسار سياسي عبر الحوار الوطني. المبادرة تقوم على ثلاثة محاور رئيسية:
-
إيجاد توافق سياسي حول شكل الدولة،
-
تنظيم انتخابات وطنية تحت إشراف دولي،
-
وإيجاد آليات لإدارة الموارد، خصوصاً النفط، بما يضمن الشفافية والمساواة.
لكن هذه المبادرة تعاني من ضعف بنيوي ومقاومة داخلية، خصوصاً من الكلبتوكراسية التي استفادت من النظام القائم، وغطت على ملفات فساد ونهب واسعة، بما في ذلك صفقات مشبوهة مرتبطة بالحكومة الحالية.
هذه المقاومة جعلت المبادرة الأممية تواجه أزمة مصداقية، خصوصاً في ظل فقدان المجتمع الليبي ثقته في قدرة الأمم المتحدة على كسر احتكار السلطة وتحقيق تغيير حقيقي.
الخلاف الجوهري بين المبادرة الأممية وقانون الكونغرس يكمن في آلية التنفيذ؛ فبينما يعتمد القانون الأميركي على الضغط والعقوبات، تعتمد الأمم المتحدة على الحوار والتوافق، ما يجعل المبادرة أضعف في غياب إرادة ليبية حقيقية وتنسيق دولي فعال.
توافق أم تصادم؟
هدف المبادرتين متقاطع من حيث السعي إلى استقرار ليبيا، لكن الوسائل مختلفة. القانون الأميركي يركز على أدوات الضغط والعقوبات، بينما المبادرة الأممية تعتمد الحوار الداخلي كطريق أساسي.
هناك إمكانية للتوافق بينهما إذا توفرت إرادة ليبية حقيقية ودعم دولي منسق، لكن غياب هذا التوافق سيجعل ليبيا تدور في نفس الحلقة المفرغة من الانقسام والصراع.
الفيدرالية الليبية والاستقرار الإقليمي
ليبيا ليست حالة منعزلة، بل هي جزء من شبكة معقدة من التوازنات الإقليمية والدولية. أي تحول في طبيعة الدولة الليبية، خصوصاً نحو الفيدرالية أو اللامركزية، سيكون له تأثير عميق على استقرار شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط.
الفيدرالية إذا تحققت لن تكون مجرد مسألة داخلية، بل نموذجاً قد يُختبر في دول الجوار، ويعيد صياغة مفهوم الحلول للنزاعات الإقليمية.
القوى الإقليمية الكبرى مثل مصر والإمارات تعتبر أن الفيدرالية قد تشجع الحركات الانفصالية داخل حدودها، ما يجعلها تراها تهديداً لأمنها القومي. في المقابل، ترى روسيا وتركيا في الفيدرالية فرصة لتعزيز نفوذ وكلائها، ما يجعل الملف الليبي مجالاً للتنافس الإقليمي على النفوذ.
قانون “الاستقرار” يمكن أن يُقرأ كأداة أميركية للضغط على الفاعلين الإقليميين، بينما تعتمد الأمم المتحدة على التوافق والحوار، ما يجعل العلاقة بين المقترحين أكثر تعقيداً، إذ يمكن أن يكونا إما أدوات تكميلية أو متضادة في المشهد السياسي الإقليمي.
سيناريوهات المستقبل
الأفق الليبي ليس موحداً. يمكن أن تتحقق الفيدرالية إذا نجحت مبادرة الأمم المتحدة في فرض توافق داخلي مدعوم بالقانون الأميركي، وهو السيناريو الأقدر على كسر الأزمة.
وفي المقابل، يمكن أن يستمر التمسك بالمركزية تحت غطاء قانون الاستقرار ، ما يعني إدارة الانقسام وليس حله.
أما السيناريو الأسوأ فهو فشل كل المبادرات، مما سيترك ليبيا فريسة للتدخلات الإقليمية والانقسامات الداخلية، وتظل الأزمة في حلقة مفرغة.
بين الاختيار والمصير
الأزمة الليبية اليوم ليست مجرد نزاع على السلطة، بل امتحان لقدرة الدولة والمجتمع الدولي على إعادة بناء ليبيا على أسس جديدة.
الفيدرالية ليست رفاهية فكرية، بل خيار وجودي يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، ويعيد توزيع السلطة والثروة. لكنها لن تتحقق من دون توافق داخلي وإرادة سياسية واضحة، ودعم دولي منسق.
القانون الأمريكي ومبادرة الأمم المتحدة هما أدوات يمكن أن تدفع هذا الخيار نحو التنفيذ أو تعرقله، لكنهما لا يستطيعان فرضه دون توافق ليبي حقيقي.
المستقبل الليبي اليوم يختبر القدرة على التحول من خطاب الصراع إلى مشروع سياسي قابل للحياة.
ليبيا إما أن تصنع خيارها السيادي نحو فيدرالية حقيقية، أو أن تبقى مسرحية عبثية تتكرر فصولها، حيث ينتصر صوت الفوضى على صوت الدولة، ويظل الاستقرار حلماً بعيد المنال.
ليبيا ليست أمام مجرد خيار سياسي، بل أمام امتحان وجودي لمستقبلها ومستقبل الاستقرار الإقليمي بأسره.
__________