المهدي هندي
لا يمكن النظر إلى مبادرات لمّ الشمل والمصالحة في ليبيا كجهود اجتماعية منفصلة عن إطارها الأعمق؛
فكل عملية مصالحة حقيقية لا بد أن تتّكئ على العقد الاجتماعي، وهو التوافق الليبي–الليبي حول قواعد العيش المشترك: الهوية، السلطة، وحقوق المواطنة.
بعد عقد من الصراع والتدخلات، تحتاج ليبيا إلى تحويل جهود المصالحة المحلية من وقائع منعزلة إلى مشروع وطني متكامل يستمد شرعيته من إرادة الشعب.
الصراع الليبي لم يكن حول من يحكم فقط، بل حول شرعية قواعد الحكم نفسها. لذا، لا يمكن لمصالحة وطنية أن تستقر دون بناء اتفاق اجتماعي جديد يضمن العدالة في توزيع الموارد ” الثروة“، والشفافية في بناء المؤسسات، والاعتراف بالأذى وإصلاحه.
عمليًا، يعني هذا أن أي مبادرة صلح بين مدن أو قبائل يجب أن تترافق مع ضغط شعبي لإصلاح المؤسسات التي تحقق العدالة الانتقالية مع مشاريع تنمية متوازنة، فالمصالحة بدون هذا الإطار المؤسسي تبقى هشة ومعرّضة للانهيار عند أول أزمة سياسية أو اقتصادية.
تُقدّم التجارب الإقليمية والعربية خصوصاً دروساً حاسمة يمكننا الاستفادة منها ففي الجزائر مثلاً بعد الحرب الأهلية، كان هناك ميثاق المصالحة عام 2005 الذي أسهم في إنهاء نزاع وتصدع داخلي، حتى وإن واجه انتقاداً كبيراً بسبب الإفلات من العقاب وغياب العدالة للضحايا.
وفي تونس أثبتت التجربة عام 2013 قدرة قوى المجتمع المدني (الرباعي الراعي للحوار) على العمل كوسيط وطني محايد لإنقاذ المسار الديمقراطي في أشدّ الأزمات، وفاز هذا الرباعي بعد ذلك بجائزة نوبل للسلام.
في المغرب قدّمت “هيئة الإنصاف والمصالحة” نموذجاً ناجحاً نسبياً في الاعتراف الرسمي بانتهاكات الماضي والتعويض، ما ساهم في تهدئة جروح عميقة ووضع جسور للثقة بين الدولة والمجتمع.
لا يخفى على أحد تحوّل الصراع الليبي إلى ساحة تجاذبات إقليمية ودولية، حيث دعمت قوى خارجية أطرافاً محلية بهدف تحقيق مصالح تتجاوز استقرار الليبيين، ولكن الرد على التدخّل لا يكون بالانكسار والانعزال، بل بتعزيز الشرعية والحَرَكة الوطنية، بحيث تُصبح المبادرات المحلية قادرة على تحييد التأثيرات الخارجية أو استيعابها ضمن إطار وطني.
إنّ تأسيس الميثاق الوطني والعقد الاجتماعي وأسس العيش المشترك ضمن إطار موحّد للمصالحة والعدالة الانتقالية، يُعدّ خطوة محورية في هذا الاتجاه. وينبغي أن يضمّ هذا الإطار المبادرات الوطنية والأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، وفعاليات الشباب والمرأة، ليكون جسمًا تمثيليًا وطنيًا يتحدث باسم المصالحة، ويستمدّ شرعيته من قاعدة شعبية عريضة، ما يعزّز مكانته أمام الداخل والخارج.
وفي هذا الإطار، يمثل التوجه نحو طرح مسودة العقد الاجتماعي على استفتاء وطني خطوة عملية محورية لترجمة هذه الرؤية إلى واقع.
إن الاستفتاء يمنح القواعد المؤسسية للعيش المشترك شرعية شعبية مطلقة تتجاوز أي توافقات سياسية مؤقتة بين الأطراف المتنازعة. هذا الإجراء الديمقراطي لا يضمن فقط أن يكون العقد ملكًا لجميع الليبيين، بل يوفر أيضًا الأرضية القانونية الثابتة التي يمكن أن تستند إليها مؤسسات العدالة الانتقالية والعدالة التوزيعية، مما يرسخ المصالحة الوطنية كإرادة شعبية لا تقبل المراجعة أو الانهيار أمام التحديات.
كذلك لا بدّ من ربط المصالحة ببرامج التعافي الاقتصادي على المستوى المحلي، من خلال إعادة إعمار البنية التحتية المتضرّرة، وتنفيذ مشاريع تولّد فرص عمل وتعيد الأمل بما يقلّل من جاذبية الانخراط في النزاعات المسلحة.
ومن جهةٍ أخرى، لا بدّ من وضع إطارٍ للعدالة الانتقالية لا يقبل الإفلات من العقاب؛ إذ يجب الموازنة بين الحقيقة والاعتراف والتعويض للضحايا. ويمكن أن يكون العفو العام المشروط أداة إيجابية إذا أُرفق بآليات مساءلة مستقلة وفعالة تجاه كبار المتورّطين في الجرائم الجسيمة.
لقد شهدنا مبادرات حوار وتصالح على عدة مستويات سواء اجتماعية أو رسمية، ولكننا لم نستوعب أن المصالحة الوطنية ليست مجرد هدف سياسي أو مكسب سياسي لهذا الطرف أو ذاك، بل هي الطريق العملي لتجديد العقد الاجتماعي بين الليبيين، وأن المصالحة تبدأ حينما يكون العقد الاجتماعي وأسس العيش المشترك برنامج واضح لدى كل الليبيين حينها سيتم تجاوز عثرات الماضي ونستطيع بناء دولة تُحترم فيها كرامة الإنسان وتُوزّع فيها الثروات بعدالة ويتعزز فيها مفهوم المصالحة الحقيقية.
____________
