يتصاعد حراك مصرف ليبيا المركزي لإنهاء معضلة «الإنفاق المزدوج» التي تثقل كاهل مالية الدولة منذ سنوات، مع إطلاقه مشروعاً لتوحيد قواعد الإنفاق العام بين مؤسسات الشرق والغرب، في خطوة يعتبرها خبراء بمثابة مرحلة مفصلية لاستعادة الانضباط المالي والحد من الهدر، وسط تحذيرات من استمرار تآكل الموارد في اقتصاد يعتمد أساسًا على إيرادات النفط.

التحركات، المتواصلة منذ أشهر، تصدّرت نقاشات رفيعة مؤخراً، جمعت محافظ مصرف ، ناجي عيسى، مع مسؤولين ماليين، وسط إجماع نسبي على أهمية هذه الخطوات لإنهاء الإنفاق العام المزدوج، رغم استمرار الانقسام الحكومي والتعقيدات السياسية والمؤسسية.

تحرك رسمي لتوحيد قواعد الإنفاق

في التاسع من سبتمبر الجاري، عقد محافظ المصرف المركزي، ، اجتماعاً مع النائب العام، الصديق الصور، ووزير المالية، خالد المبروك، ومدير إدارة الميزانية بوزارة المالية، لمناقشة تنفيذ مشروع توحيد قواعد الإنفاق العام، بحسب بيان صادر عن المصرف.

وشمل اللقاء مناقشة مبادرة المصرف لإطلاق منظومة «راتبك لحظي» الخاصة بصرف مرتبات موظفي القطاع العام بشكل رسمي، بالتعاون مع وزارة المالية، كجزء من خطة إصلاحية شاملة تستهدف تعزيز كفاءة الإنفاق العام.

ويأتي ذلك بعد لقاء سابق، عُقد في 14 أغسطس، جمع محافظ المصرف برئيس وأعضاء اللجنة المالية بمجلس  المؤيد لحكومة الشرق. ونتج عنه إطلاق رسمي لمنظومة «راتبك لحظي» في الأول من سبتمبر بمقر المصرف في العاصمة طرابلس.

وقال ناجي عيسى، وفق بيان المركزي، إن هذه الخطوة من شأنها تسهيل صرف مرتبات نحو 900 ألف موظف، مشيراً إلى أنها «تمثل خطوة أولى نحو إصلاحات إضافية في مجال الإنفاق والمالية العامة ككل».

خطوة جوهرية لتعزيز الاستقرار المالي

في حديثه لـ«إرم بزنس»، أكد سلامة الغويل، وزير الدولة لشؤون الاقتصاد السابق ورئيس مجلس المنافسة ومنع الاحتكار الليبي حاليًا، أن «مبادرة توحيد قواعد الإنفاق العام تمثل خطوة جوهرية نحو تعزيز الاستقرار المالي والاقتصادي في ليبيا، وتؤكد جدية المؤسسات الوطنية في تجاوز مرحلة الانقسام وبناء إدارة مالية شفافة وموحدة».

وأشار الغويل إلى أن إشراف النائب العام على هذا المسار يشكّل «ضمانة قانونية وتوافقية، تعزز ثقة جميع الأطراف في التزام الجميع بالقانون، وتمنح المشروع بعداً وطنياً جامعاً».

وأضاف: «تحقيق هذه المعادلة الاقتصادية ممكن من خلال الالتزام بنظام الخزانة الموحد، والحد من ازدواجية الإنفاق، بما يفتح الباب أمام فرص استثمارية جديدة، ويقلل من الأعباء المالية، ويساهم في تحسين كفاءة إدارة الموارد الوطنية»، مشدداً على أن «خطوة توحيد الإنفاق المزدوج ليست حلمًا بعيد المنال، بل مساراً واقعياً لتعزيز النمو الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة متى ما توفرت الإرادة والالتزام المشترك».

تحديات واقعية تواجه التوحيد

من جانبه، قال الخبير الاقتصادي الليبي، والوكيل السابق لوزارة المالية، إدريس الشريف، في حديث لـ«إرم بزنس»، إن «توحيد الإنفاق الذي يسعى المصرف المركزي لتحقيقه في ليبيا يعد أمرًا هامًا للغاية».

لكنه لفت إلى وجود تحديات في ظل الانقسام الحكومي الحالي، موضحا أن «المصرف المركزي يسعى جاهدًا مع مجلس النواب للتوصل إلى ميزانية موحدة يتم الالتزام بها حتى في حالة استمرار الانقسام وتأخر الوصول إلى حكومة موحدة».

وأكد الشريف أن «من الصعوبة بمكان التحكم في حجم الإنفاق العام الكلي غير المعروف بدقة، وكذلك في حجم الدين العام الذي لا يظهر في بيانات المركزي في ظل وجود حكومتين، حتى لو تم اعتماد ميزانية موحدة».

الصيغة التوافقية هي الأولوية

وفي السياق ذاته، يرى رئيس منتدى بنغازي للتطوير الاقتصادي والتنمية، خالد بوزعكوك، في حديث لـ«إرم بزنس»، أن استمرار حالة الانقسام السياسي وما يتبعها من انقسام مؤسسي بوجود وزارتين للمالية – واحدة تتبع حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، والأخرى تتبع الحكومة الليبية في الشرق – «يضعف من حجم السيطرة ويقلل من دور الرقابة المالية السابقة واللاحقة».

وأوضح أن السبب في ذلك يعود إلى «تنازع الاختصاصات وتضارب القرارات وادعاء كل منهما أنه يمثل الجسم الشرعي في ليبيا، وبالتالي فإن أي قرارات أو إجراءات ستكون بدون فاعلية تذكر».

وأضاف: «بالإمكان توحيد الموازنة، ولكن ستظل هناك إشكالية في الرقابة ومن له الحق في الصرف وفي أوجه الصرف وحجم المبالغ المخصصة لكل جهة»، معتبرًا أنه «في حالة استحالة الحلول لتلك التحديات، يجب أن تستمر المشاورات للوصول إلى صيغة توافقية تلبي متطلبات الطرفين ووفق اشتراطات النظام المالي للدولة».

ضغط مالي حاد

وكان الخط الفاصل في تحركات المركزي قد تمثل في قراره الصادر يوم 6 أبريل الماضي، بتخفيض قيمة الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية بنسبة 13.3%، ليصبح 5.5677 دينار مقابل الدولار، في أول خفض رسمي منذ عام 2020.

وأرجع المصرف المركزي هذا القرار إلى ضغط الإنفاق المزدوج المتزايد من الحكومتين خلال عام 2024، والذي بلغ 224 مليار دينار (نحو 46 مليار دولار)، محذراً من أن استمراره «سيفاقم الوضع المالي والاقتصادي» واصفًا الوضع بأنه «خطير».

وفي الربع الأول من 2025، بلغ إجمالي مصروفات النقد الأجنبي نحو 9.8 مليار دولار، بينما بلغت الإيرادات النفطية 5.2 مليار دولار فقط، مما أدى إلى عجز بلغ 4.6 مليار دولار خلال ثلاثة أشهر.

وتوقعت بيانات المركزي أن يرتفع الدين العام الليبي إلى 330 مليار دينار بنهاية العام، مقارنة بـ270 مليار دينار حالياً.

فائض مالي رغم الهدر والتحديات

رغم التحديات، أعلن مصرف ليبيا المركزي، يوم 9 سبتمبر، أن البلاد سجلت  قدره 12.8 مليار دينار (2.62 مليار دولار) خلال الفترة من 1 يناير حتى 31 أغسطس 2025، نتيجة لتجاوز الإيرادات العامة حاجز 84.3 مليار دينار، مقابل إنفاق قدره 71.5 مليار دينار في الفترة نفسها.

وبحسب البيانات، بلغت الإيرادات النفطية 70.5 مليار دينار (97% من إجمالي الإيرادات)، تلتها إتاوات النفط بـ12.1 مليار دينار، ثم الضرائب بمليار دينار، والجمارك بـ135 مليون دينار.

أما على صعيد الإنفاق، فقد تم توزيع 42.9 مليار دينار على بند المرتبات (60% من الإنفاق)، و24.3 مليار دينار على بند الدعم (34%)، بينما لم يتجاوز الإنفاق على التنمية 403 ملايين دينار فقط (1%).

يُشار إلى أن هذا الفائض تحقق رغم غياب أي إيرادات من بيع المحروقات في السوق المحلية، ما يعكس استمرار الدعم الكامل للوقود أو ضعف التحصيل المالي، رغم مطالبات داخلية بمراجعة هذا الملف حفاظاً على المال العام.

الإنفاق الموحد.. بين الواقع والطموح

في ظل أزمة مالية خانقة وتراجع في قيمة العملة، يراهن مصرف ليبيا المركزي على مشروع توحيد قواعد الإنفاق العام كخطوة رئيسية نحو إصلاح شامل، يعيد الثقة بالمالية العامة ويكبح جماح الهدر والازدواج.

لكن نجاح هذا المشروع يظل رهيناً بمدى قدرة الأطراف السياسية على تقديم تنازلات حقيقية، وتغليب المصلحة الوطنية على الحسابات الفئوية.

______________

مقالات مشابهة