الياس أبوبكر الباروني

الأحزاب المدنية ودورها في الحياة السياسية الليبية

ظهرت عقب إصدار الإعلان الدستوري من قبل المجلس الوطني الانتقالي العديد من التيارات والأحزاب السياسية التي كان لها دور في الحياة السياسية الليبية وهي:

ـ تحالف القوى الوطنية، وهو القوة الأهم والأكثر تأثيرا على صعيد الأحزاب في ليبيا، وتأسس في فبراير 2012م من مجموعة أحزاب وجمعيات أهلية، وتبنى التحالف أفكارا ليبرالية تنادي بالمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي ذات الوقت قدّم رؤية معتدلة للإسلام والدولة المدنية، وأصبح التحالف لاعبا رئيسيا في الصراعات الداخلية في ليبيا بعد أن حصد 39 مقعدا في انتخابات المؤتمر الوطني العام يوليو 2012، متقدما بذلك على الإسلاميين و50 مقعدا في انتخابات 2014.

أظهر تحالف القوى الوطنية منذ إعلان تأسيسه العديد من المواقف، منها معارضته لأداء المجلس الوطني الإنتقالي والحكومة الإنتقالية، حيث شن عليهما هجوما حادا وأعتبر أن أداءهما لم يتفق مع التوقعات المشروعة لأبناء ليبيا.

ـ كيانات وأحزاب وطنية مناطقية ومستقلون، نظرا لطبيعة النظام الإنتخابي الذي يحول دون سيطرة حزب تكون له الأغلبية، برزت أحزاب صغيرة ذات بعد وطني ومناطقي، ومنها حزب الجبهة الوطنية للإنقاذ، أكبر التنظيمات السياسية المعارضة لنظام القذافي خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، والتيار الوطني الوسطي بقيادة الدكتور على الترهوني، وزير النفط والمالية في أول حكومة (مكتب تنفيذي) بعد الثورة، وأيضا الإتحاد من أجل الوطن الذي أسسه الدكتور عبدالرحمن السويحلي.

بالاضافة إلى ذلك هناك عدة أحزاب صغيرة عادة ما تحصل على معدّل مقعد للكل منها، أحزاب الحكمة، والرسالة، والوطن، والوطن للتنمية والرفاه، وتيار شباب الوسط، ولبيك وطني، والحزب الوطني الليبي، والركيزة، والوطن والنماء، والتجمع الوطني بوادي الشاطئ، وتحالف وادي الحياة، والقائمة الليبية للحرية والتنمية، وكتلة الأحزاب الوطنية، وتجمع الأمة الوسط، وليبيا الامل.

بشكل عام يمكن القول أن الأحزاب الليبية عموما تعاني الكثير من النواقص والتحديات التي تعكس ضعف الفاعلين الاجتماعيين، فهي تعاني ضعفا تنظيميا وربما عجزا ديمقراطيا في إدارتها إلا أن أهم خصائصها هو الافتقار لمشروع سياسي وإلى قاعدة اجتماعية حقيقية والاعتماد على الشعارات والتحريض والشعبوية العدمية وهو ما يعتبر خاصية تشترك فيها الأحزاب الليبية مع مثيلاتها في دول الانتقال الديمقراطي العربية.

العديد من أحزاب ليبيا الجديدة، وربما باستثناء تحالف القوى الوطنية (الليبرالي) ويضم عددا كبيرا من الأحزاب والتنظيمات، أو حزب الجبهة الوطنية (وريث الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا التي تأسست في الثمانينيات لمعارضة القذافي) وحزب العدالة والبناء الخاص بجماعة الإخوان المسلمين، لا تعدو في الواقع عن أن تكون تجمعات لأعداد محدودة من الأفراد الذين يندر أن يتمتع أحدهم بمقومات زعامة من أي نوع.

بالتالي فالمتتبع للنشاط المتعلق بإعلان تأسيس الأحزاب يمكنه استخلاص الغموض وعدم الوضوح فيما يتعلق بهذه المحاولات، وافتقارها إلى القدرة على إعلان برامج سياسية محددة وتحديد هويتها السياسية وموقفها من القضايا الراهنة.

إن الأحزاب التي نشأت حديثا عكست دينامية تنافسية أثناء الانتخابات أدت إلى تعقيد المشهد وجعلت الوصول إلى توافقات وتسويات غير ممكن، ذلك أن الأحزاب حرصت على تعظيم مكاسبها في ظل خوفها من أن تدفعها الأحزاب الأخرى خارج ساحة المنافسة والحكم، ويزيد من خطورة التأثيرات السلبية لواقع الحياة الحزبية الحالية، أنها خلقت استقطاب حاد في الرأي العام وبين النخب المختلفة أدت لجعل التوصل لتوافقات في المرحلة الانتقالية أمرا غاية في الصعوبة وهو ما أدخل البلاد في دوامة الصراع وسط تدهور الوضع الأمني.

على غرار جدل الأحزاب السياسية، فإن قانون الانتخابات في ليبيا تعرض هو الآخر لصراعات عديدة حوله خاصة في ظل المخاوف من تهميش الأحزاب المناطقية وفئات أخرى كالمرأة، وبالتالي كان الهدف من القانون عدم إيجاد قومة مهيمنة على المشهد السياسي ولذا اقترح القانون نظام انتخابيا مركبا، حيث شغل 120 من المقاعد الـ 200 في البرلمان عبر النظام الأكثر ومن مرشحين مستقلين فيما يشغل المقاعد الـ 81 المتبقية عن طريق التمثيل النسبي من بين قوائم حزبية متنافسة كما اشترط في القوائم الحزبية تناوب المرشحين من الذكور والإناث، ورغم أن النظام الانتخابي كرّس التعددية السياسية وضمان عدم بروز قوة مركزية سياسية في ليبيا إلا أنه بالمقابل أدي لهيمنة الدور القبلي والعشائري.

واقع منظمات المجتمع المدني في الحياة السياسية الليبية

شهدت ليبيا بعد الاستقلال عام 1951م إصدار عدد من القوانين التي نظمت العمل الأهلي، وتم إنشاء عدد من الجمعيات المتمثلة في الجمعيات العاملة في مجال رعاية الأسرة وكفالة اليتيم وتعليم المرأة ومحو الأمية بالإضافة إلى الأندية الرياضية والحركة الكشفية ونقابات العمل وغيرها.

مع بدايات الستينيات ساهم اكتشاف النفط انتشار التعليم وافتتاح الجامعة الليبية والاتساع في عدد الصحف اليومية والأسبوعية ووسائل الإعلام المسموعة، في انتشار ثقافة العمل الأهلي مما ساعد على اتساع رقعة هامش حرية الأنشطة الاجتماعية والتربوية والرياضية والكشفية.

كانت الدولة تقوم بدعم هذه الأنشطة ماديا وفق لوائح تنظيمية، وكان السباق على أشده بين هذه المؤسسات التي كانت تسعى جاهدة للوصول إلى المراتب الأولى التي تضمن لها المكاسب المعنوية والدعم المالي المضاعف الذي يساعدها على الاستمرار في أداء مهامها.

في سنة 1970م صدر القانون رقم 111 بشأن الجمعيات، وتواصل العمل بهذا القانون حتى 2001م، عندما صدر القانون رقم 10 بشأن إعادة تنظيم الجمعيات الأهلية، ولكنه كان يضم العديد من المواد التي تضع المزيد من الصعوبات والعراقيل أمام العمل الأهلي، في ظل وضع عدد من الشروط المتعلقة بعدد المؤسسين للجمعية، ومقر الجمعية، ووقف الدعم الحكومي وفتح مجال الاستثمار، وتدخل اللجنة الشعبية العامة (رئاسة الوزراء)، وضرورة الحصول على الموافقة الأمنية، وغيرها.

بذلك فقد عانت مؤسسات المجتمع المدني في ليبيا وكل أنماط ومستويات العمل الأهلي من هيمنة الدولة وتسلطها منذ العام 2001 تحديدا، ولم تحتل هذه المؤسسات أي فضاء مستقل ومنفصل عن الدولة بل إنها اعتبرت جزءً من آليات النظام السياسي، وعملت المنظمات المدنية على حماية وتلمبع النظام السابق، في ظل الرقابة الشديدة والسيطرة الأمنية التي قضت على كل المبادرات أو أية نشاطات أخرى لدرجة انعدام الجرأة والخوف الشديد من ذكر اجتماع لجمعية أو مبادرة وإنما يتم استخدام كلمة لقاء.

وعقب ثورة فبراير عام 2011، ظهرت عدة محاولات لتأسيس قانون جديد للمنظمات يؤكد على استقلالية المجتمع المدني وحياديته وعدم احتواء السلطات التنفيذية له، ويمنح المنظمات حق التقاضي والطعن في القوانين والقرارات والترشيحات من حيث دستوريتها أو توافقها مع الأهداف التي أنشأت من أجلها تلك المنظمات، كما يمنح للمنظمات المعنية بالشفافية حق التفتيش والاطلاع على سجلات وتقارير الشركات والمصالح الحكومية.

على هذا تمكّن عدد كبير من الجمعيات الأهلية من تنظيم مبادرات إغاثية خيرية وتقديم الدعم الطارئ من المساعدات الطبية والمواد الغذائية والطرود التموينية، ونشطت الجمعيات الخيرية وجمعيات الدعم النفسي والاجتماعي والتأهيلي بسبب كثرة عدد الجرحى والشهداء.

تنامى يوميا تقريبا عملية ولادة منظمات المجتمع المدني في كل المدن الرئيسية في ليبيا، تتمحور هذه التنظيمات على قضايا وانشغالات أغلبها حقوقي أو نسائي أو إنساني الطابع، وبينما يبدو واضحا التواجد النشط للتيارات الإسلامية في عدد كبير منها، فإن التيارات الأخرى تجد تمثيلا مناسبا أيضا، وبينما تحفل شبكات التواصل الاجتماعي المعروفة بأعداد متنامية من المجموعات والشبكات، فإن حقيقة كون غياب التنظيم وغياب السلطة الفاعلة في البلد يجعل من هذه الظاهرة أمرا مرتبطا بما يجري أكثر من كونها تعبيرا عن ظاهرة متأصلة في الثقافة الداعمة للمجتمع المدني.

عقب إعلان التحرير في 23 اكتوبر 2011م تحولت اهتمامات المنظمات والجمعيات واضعة نصب عينيها طبيعة المرحلة المتسارعة في التغيير نحو خارطة الطريق وقضايا التوعية بموضوعات المصالحة الوطنية والسلم الأهلي والحوار والمواطنة والديمقراطية والعدالة الانتقالية وحقوق الانسان والشفافية وقضايا المركزية واللامركزية والفيدرالية.

بالإضافة إلى دعم وتقوية مشاركة المرأة والشباب في الحراك السياسي والاهتمام بموضوع انتخابات المؤتمر الوطني العام وصياغة الدستور وغيرها من الشؤون المتعلقة ببرامج المعاقين وكذلك شؤون اللاجئين والمهجّرين والمفقودين.

اختلفت قوة منظمات المجتمع المدني والجمعيات باختلاف المواقع الجغرافية وبحسب تواريخ سقوط قوات نظام القذافي السابق في هذه المناطق، بالإضافة إلى نسبة الولاء لهذا النظام في هذه المناطق.

مثلا برهنت هذه الجمعيات والمنظمات عن قوتها وفاعليتها في مدن بنغازي ومصراتة والزاوية كونها رموز الثورة والمقاومة بالإضافة لكونها تجمعات سكانية كبيرة فيها الثقل السياسي والإقتصادي، ومن ثم لحقت بها مدينة طرابلس ذات الكثافة السكانية الأكبر عددا كونها العاصمة على اختلاف مكوناتها القبلية والإثنية وتواجد القرار السياسي والتشريعي فيها.

أما مناطق الجنوب والوسط تفاوتت فيها قوة منظمات المجتمع المدني والجمعيات مثل سبها والكفرة، بينما ظهرت ضعيفة أحيانا في بعض المناطق مثل ترهونة وسرت وبني وليد، في حين بدت هذه المنظمات والجمعيات نشيطة وقوية في جبل نفوسة الذي يقطنه غالبية الأمازيغ الليبيين.

ظهر الخلط بين مفاهيم منظمات المجتمع المدني وتداخلها بالكيانات السياسية والأحزاب السياسية والتحالفات من خلال رغبة العديد من مؤسسي هذه الجمعيات والمنظمات بالانتماء إلى كيان أو حزب سياسي وبنفس الوقت المشاركة في الرقابة على الانتخابات، وهذا الخليط المعقد ناتج عن عدم الخبرة والمهنية خلال العقود الأربعة الماضية وحداثة التجربة في المشاركة السياسية والمدنية.

لذلك فإن غياب هذا المكون في ليبيا جعل عملية الانتقال الديمقراطي أكثر عرضة للفشل في تحقيق أي مستوى مطلوب، وخاصة في ظل التحديات والعوائق التي تواجه المجتمع المدني في ليبيا، وعلى رأسها ضعف القدرات المالية والتنظيمية وغلبة الطابع الجهوي أو المحلي والتنوع والتناقض في وجهات النظر التي تتبناها تنظيماته المختلفة إضافة إلى أن كثير من التنظيمات التي نشأت تعرضت للتشرذم والانقسامات والانشقاقات بما يعكس عدم القدرة على تبني واستيعاب الرؤى المختلفة بل أن كثيرا من المنظمات ظهرت كفقاعات سرعان ما اختفت سريعا.

خاصة أنه ليس هناك اتفاق على تحديد دور وطريقة مشاركة المجتمع المدني في تقرير حاضر ومستقبل ليبيا، وتظل الجمعيات الأهلية في كثير من الحالات معتمدة على الإدعاء بشرعية اكتسبتها أثناء الثورة في نظر السكان، فالجمعيات التي نشأت أيام الصراع تحرص على استثمار هذه الشرعية وهو ما خلق دينامية صراعية في علاقات الجمعيات بعضها البعض.

مع أنه تم الإعلان عن تشكيل اتحاد لمنظمات المجتمع المدني فإن الواقع يبين أنه لا يعبر عن إسمه تماما، خاصة وأن عدد الجمعيات التي كونته ليس كبيرا، ولا تواجد له في كل مناطق ليبيا، وهو ما يعكس أسلوب المباردة والسعي إلى السيطرة بتكوين تجمعات واتحادات بدون أن يكون لها ترجمة عملية على المستوى الشعبي في كل أرجاء البلاد.

إن هذا يصدق أيضا على تجمعات نقابية أو دينية كرابطة أو اتحاد علماء ليبيا واتحاد الطلبة وغيرهما، هناك شعور بمبادرة قوى اسلامية أساسا بتكوين هذه التنظيمات وإحكام السيطرة عليها، يبرز هذا أيضا من خلال قيام التيار الاسلامي بتأسيس جمعيات خيرية أو إنسانية بذات الأسلوب المُسيّس.

تقوم الجمعيات المرتبطة بالأحزاب بشكل خاص باستخدام هذه الأداة وهو ما يتسبب في تسييس المجتمع المدني وجعله يدخل دائرة الصراع الحزبي، وهو ما يحول دون إنشاء أي كتلة مؤثرة في القرار السياسي ولا يجعل المجتمع المدني المستقل قادر على منافسة المنظمات التي لديها موارد مالية وشرعية ثورثية أيضا. في الوقت الذي اقتصر فيه دور مفوضية المجتمع المدني بالمجلس الوطني الانتقالي على إنشاء صندون لدعم المجتمع المدني يتبع ما يعرف بالآلية المالية المؤقتة، تبرز خطورة أية محاولات تقوم بها تيارات سياسية وحزبية في استخدام مؤسسات المجتمع المدني واستغلالها لأغراضها.

إن من شأن ذلك أن يلقي بهذه المؤسسات الوليدة والحديثة إلى المجهول، ويجعل القبلية تستحوذ على الاهتمام وتصبح محورا للعمل السياسي بما له صلة بالجهوية وخطر ذلك على الهوية والإندماج والوحدة الوطنية والعملية الديمقراطية، لذا سيكون هناك تحد أمام التيارات الاسلامية وهو مدى قدراتها على تسهيل عملية الانتقال الديمقراطي من خلال عملها على تحرير مشاعر واتجاهات الأفراد من هيمنة الدولة، وأن يؤدي ذلك إلى خلق مجال واسع للديمقراطية بدون أن يمنع تحقيق الديمقراطية ذاتها.

التوصيات

أولا: العمل على بناء دولة ديمقراطية، إسلامية وسطية، مدنية، تعددية، لا تعادي المكونات الاجتماعية والثقافية والقبلية، وذلك بتحكيم الإرادة الشعبية في تحديد المرجعيات واختيار شكل الحكم وسلطاته، والفصل فيما يعترض طريق القوى الوطنية من خلافات، دون ربط الرجوع لهذه الإرادة أي شرط، وتجنب تقديم أي مصلحة فئوية أو قبلية على هذه الإرادة.

ثانيا: وضع ضوابط دستورية للتشريعات القانونية ينظم عمل الأحزاب السياسية، ومؤسسات ومنظمات المجتمع المدني التي ينبغي أن تحوي أفراد المجتمع كافة، بما يحول دون تعدي أي فرد أو أغلبية أو أقلية سياسية على حقوق الآخرين وحرياتهم.

ثالثا: ضرورة إعطاء جميع الليبيين حق المشاركة في هذا النظام الديمقراطي، بدون أي عزل سياسي أو تمييز سياسي أو اجتماعي، وعلى أساس حقوق المواطنة الكاملة لليبيين كافة، وذلك بالعمل على إعادة إصلاح وبناء المؤسسات الديمقراطية الرسمية وغير الرسمية للدولة الليبية الحديثة، وإنجاز مهمة الوحدة الوطنية والاستقرار الأمني والمجتمعي، ساعين في ذلك المساهمة في تنمية المجتمع الليبي.

رابعا: ضروة العمل على تحقيق التحالف السياسي بين معظم الحركات والتيارات والأحزاب الإسلامية ذات التوجهات المعتدلة والتيارات والأحزاب المدنية، والتي تؤدي بدورها إلى اندماج القوى الليبية كافة في سبيل السعي نحو تحقيق وحدة الصف الليبي، ومن ثم تحقيق استقرار الدولة الليبية.

***

الياس أبوبكر الباروني ـ كلية القانون والعلوم السياسية – جامعة نالوت – ليبيا

___________

المصدر: مجلة أريد الدولية للعلوم الإنسانية والإجتماعية ـ المجلد الثالث، العدد السادس، يوليو 2021م

مقالات مشابهة