إبراهيم عبد العزيز صهد
***
في حياة كل أمة من الأمم تبرز أيام مخصوصة تتميز عن غيرها من الأيام بما يقع فيها من أحداث عظيمة، وبما تشهده من إنجازات فريدة.
وتحفل الأمم لهذه الأيام وتحتفل بها، تخلدها وتفرد لها موقعا متميزا، وتبقيها دائما منبرا تطل منه الأجيال على تاريخ الأمة مستذكرة تجاربه وعبره، وتحتفل بها مناسبة لتخليد ذكريات تلكم الأيام وأحداثها وما تحقق فيها من إنجازات، وتجعل منها وقفة للتعبير عن الوفاء والتقدير والإكبار لأولئك الذين صنعوا تلك الإنجازات بفكرهم وحكمتهم أو بجهدهم وجهادهم أو بصبرهم وإصرارهم، وتتخذ منها بداية انطلاقة جديدة نحو آفاق المستقبل وتحدياته بخطى وثابة تزيدها التجارب المتراكمة رسوخا وثبوتا.
وفي حياة الشعب الليبي يبرز يوم الرابع والعشرين من ديسمبر 1951م على أنه يوم من أيام التاريخ الخالدة، بل إنه يوم التاريخ بدون منازع.
فهو اليوم الذي توجت فيه البلاد كفاحها ونضالها الطويل المرير من أجل الحرية.
وهو اليوم الذي نالت فيه ليبيا استقلالا انتزعته بجدارة واستحقاق.
وهو اليوم الذي تأسست فيه دولة ليبيا الحديثة.
وهو اليوم الذي تحققت فيه –لأول مرة– وحدة ليبيا بأقاليمها الثلاث تحت حكومة وطنية واحدة.
وهو اليوم الذي كان فجره إيذانا ببداية مرحلة جديدة يتسلم فيها أبناء ليبيا مصير بلادهم.
عقبات أمام الاستقلال
ولقد حقق الليبيون هذا الإنجاز العظيم في الوقت الذي كانت فيه جميع الظروف والمعطيات الدولية والإقليمية والمحلية تشكل عوامل تخذيل وعرقلة.
فعلى الصعيد الدولي، كان الاستعمار الأجنبي يسيطر على الغالبية العظمى من دول العالم الثالث، وكانت الغنائم ما زالت تقتسم بين حلفاء الحرب العالمية الثانية، وكان الاستعمار – بكل بساطة– مبدأً معترفا به دوليا، وكان تقسيم العالم إلى مناطق للنفوذ واقعا فعليا وممارسا على الصعيد السياسي الدولي.
لم تكن هناك بعد مجموعة دول عدم الانحياز ولا منظمة الوحدة الإفريقية ولا منظمة الدول الإسلامية ولا غيرها من المنظمات التي اضطلعت بدور أساس في مناصرة ودعم قضايا التحرر والاستقلال.
وعلى الصعيد الإفريقي، كان الاستقلال حلما لم يداعب الأجفان بعد، وكانت الشعوب الإفريقية المستعمرة من قبل الدول الأوروبية بعيدة كل البعد عن أول خطوة نحو الاستقلال. ولعل من المناسب الإشارة إلى وضع “أريتريا” التي كانت قضيتها في ملف واحد مع القضية الليبية ضمن ملف المستعمرات الإيطالية، وكيف انتهى الوضع بها إلى أن تظل محرومة من الاستقلال حتى عام 1993.
أما على الصعيد العربي، فقد كانت دول المغرب العربي (تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا) ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي والأسباني، وكانت السودان تحكم ثنائيا من قبل مصر وبريطانيا، وللأخيرة نصيب الأسد، وكانت عدن وكل دول الخليج العربي إما مستعمرات أو محميات بريطانية.
لم يكن هناك سوى سبع دول عربية مستقلة، هي: السعودية، واليمن، والعراق، ولبنان، وسوريا، والأردن، ومصر، وكانت ليبيا هي الدولة العربية الثامنة.
أما على الصعيد المحلي، فقد خلّف الاستعمار الإيطالي، وخلّفت الحرب العالمية الثانية البلاد في حالة من الدمار والتخلف:
فمدن ليبيا وقراها ـ خاصة في منطقة برقة ـ كانت مدمرة بفعل المعارك التي دارت فوقها خلال الحرب، وكانت أراضيها تزخر بمخلفات تلك الحرب من ألغام وقنابل عمياء كانت تنفجر في كل ساعة مخلفة وراءها سحبا حمراء من الغبار ومن أشلاء الضحايا.
وكانت إمكانات البلاد الاقتصادية في أقصى درجات التدني، فقد كانت ليبيا تعد إحدى أفقر دول العالم، كانت الموارد شحيحة، ولم تكن رائحة البترول قد فاحت بعد، وكانت الزراعة بدائية بكل ما تعنيه الكلمة وتعتمد على مياه الأمطار، وكان جل صادرات البلاد تتمثل في نبات الحلفا والجلود المدبوغة وبعض صادرات الثروة الحيوانية، هذا علاوة على افتقار البلاد لكل مقومات البنية الأساس.
كما كانت إمكانات البلاد البشرية هي الأخرى في حالة يرثى لها، فليبيا كانت قد فقدت نصف سكانها إبان مرحلة الاستعمار الإيطالي، ولم تكن الرعاية الصحية متوفرة حتى في أدنى أشكالها, وكانت الأوبئة تعصف بالسكان خاصة في الأرياف.
وقد عملت إيطاليا على تجهيل الشعب الليبي وحرمانه من التعليم، فمعدلات الأمية كانت مخيفة، ويوم أعلن الاستقلال كان عدد خريجي الجامعات يعدون على أصابع اليدين، وكانت الدراسة الثانوية أمرا جديدا على البلاد.
ولهذا فقد كان القول بأن الليبيين لن يستطيعوا بناء مؤسسات الدولة وإدارتها بكفاءة، كان هذا القول حجة واردة واستخدمتها مختلف الأطراف الطامعة في السيطرة على ليبيا محاولة عرقلة استقلالها والحيلولة دون تحقيقه.
هذا بالإضافة إلى أن ليبيا ـ رغم فقرها آنذاك، وما تعانيه من المصاعب– تتمتع بموقع استراتيجي فريد بالغ الأهمية، جعلها محط أطماع مختلف الدول – القريبة والبعيدة– التي كانت ترى في أرض ليبيا مغنما يحقق جشعها في التوسع الترابي.
رصيد يملكه الليبيون
شكلت العوامل والظروف والمعطيات –سالفة الذكر– عقبات أمام مساعي الليبيين لتحقيق استقلال بلادهم، وكادت أن تؤدي إلى تأخير استقلال ليبيا الأمر الذي كان من شأنه أن يدفع بالبلاد إلى مستقبل مجهول مظلم، أقله خضوعها تحت الوصاية الأجنبية.
غير أن الشعب الليبي كان يمتلك عدة أوراق هامة، كان لها تأثير حاسم وجوهري في معركة الاستقلال:
فقد عُرف الليبيون بمقدرتهم على قبول التحدي، ومواجهة المصاعب، والصمود أمام النكبات والكوارث في صبر وشجاعة وشمم. وعُرف الليبيون بقدرتهم على الإقدام على الصراع في غياب الإمكانات المادية اللازمة لخوضه. هذه الحقيقة لم تغب عن كل الأطراف المعنية بالقضية الليبية.
وفي ذاكرة العالم، تلك الوقفة الفذة التي وقفها الشعب الليبي في مواجهة أقذر واعتي مستعمر عرفته البشرية. في تلك الوقفة خاض شعبنا معاركه بكل إقدام مسطراً ملحمة جهادية خالدة، ضرب فيها الأمثال على حسن التنظيم، وجودة التخطيط، ودقة الانضباط، وحكمة القيادة.
وكان العالم يُدرك أن الشعب الليبي قادر على تكرار هذه الملحمة الجهادية ذودا عن حريته وسعياً نحو استقلاله.
والشعب الليبي كان قد ساهم في معركة تحرير بلاده خلال الحرب العالمية الثانية، حيث قامت وحدات الجيش السنوسي وكتائبه بدور فعال في المجهود الحربي للحلفاء، وهو المجهود الذي أدى إلى طرد قوات المحور بصورة نهائية من الأراضي الليبية، ووضع حداً للاستعمار الإيطالي الغاشم. ولقد كان لهذا الإسهام أثر مادي ومعنوي في تعزيز حق الليبيين في الاستقلال.
والشعب الليبي كان قد مارس تجربتين في الحكم والإدارة الذاتية، وأعني بهما قيام الإمارة السنوسية في برقة، وقيام الجمهورية الطرابلسية في طرابلس. وهما وإن كانتا تجربتين قصيرتين إلا أنهما قد دلّتا على إمكانية قيام هذا الشعب في أن يحكم نفسه بنفسه.
والليبيون اتفقوا على خوض المعركة السياسية من أجل الاستقلال بكل عزم وتصميم محددين أسساً وأهدافاً اتفقت حولها الغالبية الساحقة من أبناء ليبيا، وهي:
رفض الوصاية والانتداب وكل أشكال الاستعمار المقنّع.
المطالبة بـ الاستقلال التام.
وحدة ليبيا بأقاليمها الثلاثة (برقة وطرابلس وفزان).
الإمارة السنوسية ، أو بمعنى آخر زعامة السيد محمد إدريس السنوسي الذي سبق أن بويع أكثر من مرة، والذي برز بوضوح على أنه الزعيم القادر على توحيد الأمة الليبية وجمع كلمتها والوصول بها إلى الاستقلال، علاوة على قدرته على استقطاب القبول الدولي.
وقد ظل الخيرون من أبناء ليبيا –خلال الأعوام الصعبة (1940-1950) يبذلون المساعي المتتالية للإبقاء على اتفاق الكلمة والالتفاف حول هذه الأهداف والأسس الأربعة بعد أن أدركوا أنها هي الصيغة الوحيدة الممكنة للظفر بالاستقلال، في حين بذلت أطراف عديدة مساع حثيثة من أجل تفريق كلمة الليبيين حتى يتسنى إهدار الاستقلال على مذبح الأطماع الدولية والشخصية، وكان مداخل هذه الأطراف متعددة، وكان بعضها يبدو بريئاً:
فكان مدخل الطعن في زعامة السيد إدريس السنوسي بشتى المطاعن، وذلك لأن هذه الأطراف تدرك أنه كان مستحيلا –في ذلك الوقت– أن يتفق الليبيون على رجل آخر.
وكان مدخل التشكيك في إمكان حصول ليبيا على الاستقلال، ومن ثم اقتراح وضعها تحت الوصاية العربية بديلا عن وصاية أو احتلال أجنبي، بما في ذلك طرح وصاية الجامعة العربية نفسها، وهي المؤسسة التي كانت –ولا تزال– عاجزة حتى عن إدارة أعمال أمانتها العامة بطريقة كفؤة.
وحتى الوحدة الوطنية وشكل الحكم اتخذتا مدخلا للتفريق والتعجيز، فتم طرح صيغ بعينها –معلوم مسبقا صعوبة تحقيقها واستحالة اتفاق الليبيين حولها– وإذا لم يتحقق الاستقلال على أساس هذه الصيغ فهو، في مزاعم تلك الأطراف، استقلال ناقص أو مزيف ينبغي رفضه.
ولم تكلف هذه الأطراف نفسها تحديد نتائج هذا الرفض:
ـ وصاية أجنبية
ـ واستعمار جديد
ـ وتقسيم أبدي للبلاد
وحتى بعد صدور قرار الأمم المتحدة القاضي باستقلال ليبيا، فقد استمرت محاولات نقض عُرى أي اتفاق أو ترتيب يصل إليه الليبيون، وحتى أسس اختيار الجمعية التأسيسية، وحتى كافة الإجراءات التي قُصد من ورائها تجاوز الشكليات من أجل التسريع باستقلال ليبيا، حتى هذه غدت مداخل لمختلف الأطراف للطعن والتشكيك والتفريق، واستخدم في ذلك بعض الدول أعضاء “مجلس الأمم المتحدة الخاص بليبيا”، واستخدم منبر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية.
لقد كان لكل طرف من هذه الأطراف مصالحه وأطماعه الخاصة، ولقد وجدت هذه الدعاوى –للأسف الشديد– صدى لها في بعض الأوساط الليبية، وسببت –في مراحل معينة– شروخا في جدار اتفاق كلمة الليبيين، وكادت أن تودي بحلم الاستقلال إلى التهلكة.
أما عموم الليبيين فقد كانوا يرون أن صيغة الاتحاد وشكل الحكومة قضية داخلية يمكن تغيير أوضاعها في المستقبل، ولكنها يجب ألا تُعرّض إنشاء دولة ليبية واحدة للخطر. كانوا يدركون أهمية خوض المعركة السياسية لإنجاز استقلال بلادهم بصفوف متحدة، وبوعي يفوت على كل الأطراف الخارجية مبتغاها، وبحركية تستثمر كل الظروف والفرص.
وكان المسرح الدولي –آنذاك– يجري إعداده بالفعل لمناقشة القضايا العالقة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وكانت التحالفات تتشكل، وكان حلفاء الأمس يواجهون انفراط عقد تحالفهم، وكان الليبيون يرنون بآمال كبيرة للمستقبل وما يحمله.
…
يتبع في الجزء التالي
_________________
(كتبت هذه المقالة عام 1990 ونُشرت في مجلة الإنقاذ)