إن الاختلاف نزعة إنسانية سليمة ما دام يدفع نحو البناء والرقي، كما أن الإنسانية واحدة لا تتجزأ وقيمها الأساسية قيم متماثلة، وكل حق في الاختلاف لا يكتسب معناه الحقيقي إلا بقبول الآخر والتسامح، لذلك فإن تنوع الأحزاب والحركات والتكتلات السياسية المجتمعية وتنوع أشكال التعبير والثقافة هي عوامل تنافس من اجل العطاء والتقدم، ويجب أن لا تتحول بأي شكل من الأشكال إلى عوائق تمنع الازدهار وقيم التقدم والتعايش البشري.

هذه المقدمة تقودنا إلى التساؤل: هل أن وفرة الأحزاب والزعامات والحركات والتكتلات السياسية الحزبية في المجتمعات الإنسانية هي سبب تعطيل أو تشويه الحياة السياسية، الاقتصادية، الثقافية، والمجتمعية، أم أن الواقع الوطني والسياسي والمجتمعي والتحولات العالمية والإقليمية هي ما تلقي ثقلها وضلالها على الأحزاب والحياة السياسية في هذه المجتمعات؟
سوف أحاول الإجابة على هذا التساؤل من خلال التطرق إلى تعريف مفهوم التربية الحزبية وسلبياتها
.

في هذا السياق وبما إننا نتكلم عن التربية الحزبية لا بد من تعريف المفهوم العلمي للحزب لارتباطه الوثيق بالتربية الحزبية، وسوف ابدأ بتعريف الحزب..

إن الحزب السياسي هو تنظيم اجتماعي سياسي يمثل شريحة اجتماعية تطوعية واعية ومنظمة ومتميزة من حيث الوعي والسلوك الاجتماعي في المجتمع، أو ربما يمثل كتل اجتماعية متناغمة، ويدافع الحزب عن مصالح الكتل الاجتماعية التي يمثلها روحاً ومضموناً، ويجاهد من أجل انتصار أهدافه وغاياته، وهذه الغايات قريبة وبعيدة المدى وتهدف إلى الاستيلاء على السلطة (( إذا كانت هذه الأحزاب في المعارضة)) والى تغير سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وحياتي يتماشى مع قناعاتها واتجاهاتها.

يجب التنويه إلى أن كل حزب من الأحزاب السياسية له مبادئ تنظيمية وفكرية واجتماعية وقوانين داخلية يحتكم إليها وهو ما يسمى النظام الداخلي ويوجد للحزب برنامج محدد يبسط فيه هويته الفكرية، السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية، لذلك يجب أن تكون الديمقراطية حاضرة في مؤسسات الحزب وفي قيمه وسلوكه اليومي.

أيضا يجب أن يتماشى نشاط الأحزاب مع القانون ومع احترام الهيئات والكفاءات والتخصصات وعدم دمج السلطات أو الالتفاف عليها.

إن هذه الأحزاب من الطبيعي أن يكون لها أيضا قيادات وهيئات حزبية واعية ومنتخبة، وان يتم تناول السلطات في الأجهزة الحزبية بالطريقة الديمقراطية بعيدا كل البعد عن العقلية الشمولية والتآمرية، ويفترض أيضا أن يخضع الكل في هذه الأحزاب للقانون ولحقوق وواجبات متساوية والمساءلة والعقاب في حالة الخروج عن الصواب ويجب أن يلعب النقد البناء دورا محوريا ومركزيا في تصويب وتعرية الأخطاء والسلبيات.

إذا ما انتقلنا الآن إلى تعريف المفهوم العلمي للتربية الحزبية يمكننا القول أنها:- ((التربية التي تعزز التفكير الصحيح، العلمي، المنطقي، والحر الذي يعتبر أهم وسيلة من وسائل الإنعتاق من آثار العادة والاتكال على تفكير الآخرين وكسر للطوق والرتابة والاجترار الذي يتربى عليه الناس، وهي أيضا التي تقضي إلى التعبير الأيديولوجي والتنظيمي والسياسي للحركة أو الحزب وتتطرق أيضا للحياة الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية المدنية، والسياسية في المجتمع)

من خلال هذا التعريف نستنبط انه يدفع باتجاه تعزيز وتشجيع الفكر المنهجي بعيدا عن الرتابة والتقليد.

لتوضيح الحقيقة والواقع نقول أن للتربية الحزبية الممارسة الآن في معظم المجتمعات الإنسانية لها ايجابيات قليلة وسلبيات كثيرة، ويمكننا أن نلخص أهم هذه السلبيات في النقاط التالية:-

أولا : لقد نجحت التربية الحزبية ((خاصة بالمجتمعات العربية)) في صناعة الببغاوات والقطعان الهائمة التي لا تـجـيد إلا فن التصفيق والإشادة واجترار الشعارات، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في بناء العقول الحـيـــة المبصرة، القادرة على بناء المواقف وصناعة الأحداث وأخزى الله التبعية العمياء الصماء كم قتلت من الطاقات، وسحقت من الشخصيات ..!!

ثانيا : تقييد الحرية الفكرية والسياسية للناس لان الحزب دائما يضبط حركة الأفراد وأفكارهم ويوجهها في القناة التي تريدها القيادة السياسية، هذا بالطبع بلغي مبدأ الحرية الفكرية والسياسية، نتيجة لذلك تتولد عند الأفراد حالة فقدان القدرة على الإبداع والتنظير الحر.

ثالثا : تشجع التربية الحزبية على عدم احترام آراء ومواقف الأحزاب الأخرى لأنها غير منسجمة مع آراء ومواقف حزبهم، وهذا قد يؤدي إلى التناحر والصدام غير الشريف أحيانا بينهم، أو إلى الصراع المسلح مثلما حصل في لبنان والجزائر على وجه التحديد.

رابعا : أدت التربية الحزبية إلى تربية الناس على التبعية والإطاعة العمياء وعدم السؤال عن آراء وأفكار ومواقف الحزب، وقبولها من دون تردد ومن غير مناقشة ومن دون قناعة أحيانا، بل أصبح شعار الأحزاب نفّذ ثم ناقش. هذا أدى في السابق وما زال حتى الآن إلى إبقاء إحكام السيطرة والاستغلال على البسطاء من أفراد المجتمع من قبل القيادات الحزبية الذين لهم مصلحة في ذلك، لذلك ندعو الناس إلى محاربة كل أنواع التبعية والإطاعة العمياء والاستغلال.

خامسا: النظرة الفئوية الضيقة بحيث يعتبر الحزب إن كل إنسان ينتمي إليه هو الإنسان الكامل الفاضل، أما غيره فهو إنسان جاهل، هذه النظرة الفئوية الضيقة والغرور والكبرياء تضر بالوحدة الوطنية وتعمل على إيجاد شرخا كبيرا في الجدار الوطني وتفكك عرى الأمة الواحدة،وتجعل أفراد المجتمع فرقا متناحرة.

سادسا: التربية الحزبية السلبية تعمل على تعزيز وتقوية المصالح الخاصة للحزب على حساب المصالح الوطنية والقومية، من خلال الوقوف إلى جانب الباطل إذا كان يمثله احد أفراده الحزب، وعدم الدفاع عن الحق إذا كان احد قياداته أو أفراده مخالفا للحق، الأمثلة والشواهد على ذلك كثيرة، رأيناه في مسألة ما إذا كان الوزير ينتمي إلى حزبهم فيسكتون عن الحق ولا يستجوبونه.

أما إذا كان الموضوع نفسه مع وزير من حزب آخر فنراهم يقفون ضده ويستجوبونه.

سابعا: تعمل التربية الحزبية السلبية على إضفاء الصيغة السياسية على كل الأمور المجتمعية من خلال احتواء جميع المشاريع الخيرية، الثقافية، الاقتصادية، والرياضية لصالح حزبهم.

ثامنا: احد علماء السياسة قال أن التربية الحزبية السلبية عدوة الحريات العامة والديمقراطية، لان الحزب يعمل على فرض هيمنته على الرأي العام وقضاياه السياسية من خلال سيطرته على القنوات الإعلامية، وبهذا تصبح آرائه وآراء الناس مقيدة مكبلة لا يستطيعون أن يتخذوا موقفا مناسبا إلا من خلال الكيان الحزبي.

وأخيرا: لا بد من التنويه إلا أن التربية الحزبية السلبية تعمل كذلك على ضرب المبادرات الجماهيرية وإلى عدم القدرة على اتخاذ القرارات المناسبة إلا بعد فوات الأوان لان القرار لا يصدر إلا بعد اجتماع القيادة الحزبية، فيتأخر الحزب باتخاذ القرار، مع أن طبيعة الحال والموقف السياسي يتطلب قرارا جريئا وحاسما بأقصى سرعة.

نختتم هذه الدراسة بما قاله (فولتير) إنني لا أفرض إنني لا أقترحإنني أعرض لذلك لا بد من التوضيح، أنه على الرغم من كل السلبيات الأنفة الذكر للتربية الحزبية، يجب الإقرار بأهمية الأحزاب وضرورتها بالمجتمع، ولكننا نحتاج إلى

أحزاب متجددة غير جامدة،

أحزاب تشجع وتدعم المشاركة في الشأن العام،

أحزاب تكون قناة للتواصل بين الناس والسلطة،

أحزاب للإعداد والتربية والمواطنة الصالحة،

أحزاب لا تعيد إنتاج التسلط والاستبداد في نمطه التربوي،

أحزاب تحارب الأمراض والظواهر المجتمعية السيئة وتساهم في بناء وتطوير وتقدم المجتمع.

_________________

مقالات مشابهة