د. الياس أبوبكر الباروني

الملخص

لا شك أن المجتمع الليبي غني بتركيبته الديموغرافية والسوسيوثقافية ولكنه لم يواكب مجتمع مدني فاعل ومؤثر؛ فالقبيلة كانت المتحكم الأساسي في المعترك السياسي من خلال توظيفها سياسيًا خصوصا في عهد القذافيالذي عمل على تصحيرالحياة السياسية، وحقنها بأيديولوجيا رماديةترفض كل لون سياسي بدعوى من تحزب خانو الحزبية إجهاض للديمقراطيةو التمثيل النيابي تدجيل، وغيرها من الأذرع السياسية الأيديولوجية المقيتة، ترتيبا مما سبق تتركز إشكالية الدراسة على سؤال رئيس المتمثل في:

ما طبيعة دور الأحزاب الإسلامية والمدنية ومنظمات المجتمع المدني في الحياة السياسية الليبية، حيث هدفت الدراسة إلى التعرف على نشأة الأحزاب السياسية في ليبيا، وتوضيح خريطة الأحزاب الإسلامية المنخرطة في الحياة السياسية الليبية، ومن ثم محاولة إبراز دور الأحزاب المدنية في الحياة السياسية الليبية وكذلك الوقوف عند واقع منظمات المجتمع المدني في الحياة السياسية الليبية.

واستخدمت الدراسة المنهج الاستقرائي الوصفي، والمنهج التحليلي النقدي، وذلك لفهم وتحليل دور الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وأدواتهما في تشكيل النظام السياسي لليبيا، وصولا إلى أهم النتائج المتمثلة في أن الدراسة أظهرت إن الأحزاب السياسية التي نشأت حديثا لأول مرة عقب سقوط القذافي عكست دينامية تنافسية، ولكنها لا تزال تفتقر إلى القدرة على إعلان برامج سياسية محددة وتحديد هويتها السياسية وموقفها من القضايا الراهنة المتعلقة بقضايا التنمية التي تسعى ليبيا لتحقيقها.

وعقب ثورة فبراير الليبية تم تشكيل عدد كبير من مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني لكنها لا تزال محدودة النشاط ولا يوجد تواجد لها في كل مناطق ليبيا، وهو ما يعكس أسلوب المبادرة والسعي إلى السيطرة بتكوين تجمعات واتحادات بدون أن يكون لها ترجمة عملية على المستوى الشعبي في كل أرجاء البلاد.

نشأة الأحزاب السياسية في ليبيا:

بعد إسقاط القذافي تأسست عشرات الأحزاب السياسية من مختلف التيارات الإسلامية والليبرالية والقومية والملكية والمناطقية وغيرها، وذلك في ظل سعي المجلس الوطني الانتقالي لتأسيس بنية تشريعية للأحزاب، من خلال إصدار قانون تنظيم الأحزاب السياسية رقم 29 سنة 2012 إضافة إلى القانون بشأن ضوابط الكيانات السياسية رقم 30 لسنة 2012م الذي صدر في 24 أبريل 2012م وهما المنظمات لنشاط الأحزاب والكيانات السياسية.

كانت المسودة الأولى لقانون الأحزاب تحظر قيام الحزب على أساس قبلي أو جهوي أو عرفي أو لغوي أو ديني، ولكن الجماعات الإسلامية واجهت هذا المشروع بالرفض، وهو ما أدى إلى إسقاط شرط عدم التمييز، بما فتح المجال لأحزاب على أسس دينية ومناطقية وجهوية.

كما نجح الإسلاميون في الضغط على المجلس فجاء القانون ليحظر تداول أي فكر مخالف للشريعة وهو نص كان يستهدف حظر أية أحزاب ذات توجه علماني إضافة إلى ما نص عليه من حظر تداول أو نشر ما يخالف الشريعة، وهو ما يفتح الباب واسعا لتأويلات تضع قيودا على حرية التعبير، ويعمق من أزمة المرحلة الانتقالية في ليبيا، وفيما يلي استعراض لأهم الأحزاب التي ظهرت بعد ثورة 17 فبراير 2011.

الأحزاب الإسلامية المنخرطة في الحياة السياسية الليبية:

ثمة نمطان من التيارات الإسلامية في ليبيا، أحدهما انخرط في العمل السياسي الحزبي، والآخر ذو الصبغة السلفية الجهادية الذي يعد من أبرز الأحزاب الإسلامية، وهذا ما سأتناوله في هذا المبحث مع تبيان نظرة الشريعة الإسلامية في مسألة الأحزاب السياسية.

خارطة الأحزاب الإسلامية في ليبيا

أخذت أشكال متعددة من حيث التوجهات والرؤى وكان لها دور في المرحلة الإنتقالية.

ـ حزب العدالة والبناء، وهو الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، وبدأ نشاطها في ليبيا في العام 1949م، غير أنه اصطدمت بنظام القذافي حيث تعرضت قياداتها للاعتقال، إلا أنها فاوضته منذ العام 2007 مع سيف القذافي، وتؤمن الجماعة بأن الإسلام دين ودولة وغايتها إقامة نظام إسلامي، وساندت الجماعة ثورة فبراير مع انطلاقتها، وكان لها حضور في المجلس الوطني الإنتقالي الليبي عام 2011.

إن الظروف السياسية والاقتصادية في ليبيا إبان عهد القذافي لم تسمح للجماعة بالممارسة السياسية، وهو ما يفسر ضعف الأداء الإنتخابي للحزب، وخاصة عند مقارنته بأداء الإسلاميين في مصر وتونس اللذي يمتلكان خبرة سياسية وانتخابية كبيرة، ولذلك لم يحصل حزب البناء والعدالة سوى على 17 مقعدا في انتخابات المؤتمر الوطني العام في يوليو 2012، ليحل في المرتبة الثانية، بعد تحالف القوى الوطنية الذي حصد 30 مقعدا، وفي انتخابات يونيو 2014، حصل على 23 مقعدا.

استطاعت الجماعة عبر صياغة تكتل في المؤتمر الوطني العام مع كتلة الشهداء الإسلامية التي تضم إسلاميين مستقلين، تمرير قانون العزل السياسي لتقليص قوت التيارات المدنية، في مقابل زيادة قوتها في السلطة الإنتقالية، حيث أن ثمة مؤشرات على علاقات تنسيقية في المواقف الإقليمية والدولية.

ـ حركة التجمع الإسلامي، تكونت الحركة في البدء من مجموعة من الملتزمين إسلاميا المنضمين سابقا إلى الإخوان المسلمين، قبل أن تحدث بينهما خلافات تنظيمية أدت إلى الإنفصال وتأسيس حركة التجمع الإسلامية على أنها نمط من التنظيمات الجبهوية التي تسعى إلى جمع أكبر عدد من الإسلاميين بدون فرض قيود تنظيمية، وبدون الارتباط بأي تنظيم إسلامي خارج البلاد، وبعد الثورة أنشأت الجماعة حزبا سياسيا حمل إسم رسالة، واستطاع أن يتحصل في انتخابات المؤتمر الوطني العام على مقعد واحد.

ـ أحزاب ذات طابع سلفي منبثقة عن الحركة الإسلامية للتغيير، وهي حلت محل الجماعة الليبية المقاتلة بعد عمل مراجعات لنبذ العنف إبان حكم القذافي في العام 2011، لكن أعضاءها شاركوا بفاعلية في محاربة كتائب القذافي إبان ثورة فبراير 2011 بسبب خبرتهم في الجهاد الأفغاني.

بعد الثورة تحولت الجماعة المقاتلة إلى حركة الإسلامية للتغييروانخرط بعض المنتمين لها في العمل الإسلامي عبر عدة أحزاب سياسية في الانتخابات التشريعية في يوليو 2012، من أبرزهم: حزب الوطن المعتدل ذي القاعدة الواسعة الذي يرأسه عبدالحكيم بالحاج، وحزب الأمة الوسط الأكثر تشددا في رؤاه الدينية تحت قيادة سامي الساعدي، الذي يعد المنظر الرئيسي للجماعة المقاتلة، وانضم أيضا عبدالوهاب القايد شقيق الراحل أبو يحي الليبي الذي يعتبر على نطاق واسع الرجل الثاني في تنظيم القاعدة، الذي ترشح ونجح في الانتخابات البرلمانية في مدينة مرزق الجنوبية في انتخابات 2012، ويرجح ضعف الأحزاب المعبرة عن الإتجاه السلفي إلى طبيعة البنية الصوفية السنوسية التي تأسست عليها حركة التدين في ليبيا والتي لا تزال حاضرة بقوة لدى كافة التيارات بما فيها التيار المدني.

ـ أحزاب إسلامية أخرى تعبّر عن امتدادات إقليمية، ومن أبرز نماذجها، التجمع الوطني من أجل الحرية والعدالة والتنمية، وهو حزب سياسي إسلامي أسسه الدكتور على الصلابي ويدعو إلى ديمقراطية إسلامية، على غرار النموذج التركي.

الأحزاب السياسية في الشريعة الإسلامية:

يمكن حصر الرؤية الإسلامية للتعددية الحزبية في إطار الدولة الإسلامية في اتجاهات ثلاثة:

الإتجاه الأول ـ إباحتها مطلقا

وهو اتجاه لا يقف ـ كما يقول الدكتور صلاح الصاوي ـ عند حدود التعددية الملتزمة بسيادة الشريعة، بل يفتح الباب على مصراعية، يرى أن المذهبية الإسلامية تستوعب إطلاق التعددية إلى أبعد مدى حتى تشمل الأحزاب الشيوعية الإلحادية والعلمانية ونحوه، فهو اتجاه يكاد يكون علمانيا في هذه المسألة، فلا فرق البتة بينه وبين الإتجاه العلماني فيها، ولا شك أبه تيار ضعيف في الصف الإسلامي، فضلا عن أنه مرفوض تماما من قبل من يمثلون أغلبية التيار الإسلامي، وإن كان من حجتهم ـ كما يقول الدكتور الصاوي ـ أن المذهبية الإسلامية التي استوعبت في داخلها المجوس وهم عبدة النار، واستوعبت في داخلها عبدة الأصنام عند كثير من أهل العلم، كما استوعبت اليهود والنصارى لهي من المرونة بحيث تستوعب داخل إطارها الشيوعيين والعلمانيين، إذ لن يكونوا أكفر من اليهود والنصارى والمجوس، وفي الصحيفة التي عقدها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أهل المدينة من المسلمين واليهود ومن دخل في عهده معبرة ومنهاج، وسابقة لها دلالاتها الحضارية التي تشهد بمدى مرونة الإطار السياسي في الدولة الإسلامية.

الإتجاه الثاني ـ منعها مطلقا

الأحزاب لم تذكر في النصوص الشرعية إلا مقترنة بالذم والوعيد، واقتصرت الإشارة بها إلى أعداء الدين، وفي المقابل لم يشر إلى جماعة المسلمين بتعبير الأحزاب فقط، وإن ما أشير إليهم بصيغة المفرد على أنهم حزب الله، وذلك في موضعين إثنين في القرآن الكريم، فدلّ ذلك على أن المذهبية الإسلامية لا تتسع إلا لحزب واحد فقط حزب الله، أما الأحزاب فهي تعبير تسع لجميع الفرق والنحل الخارجة عن جماعة المسلمين.

إضافة إلى الأدلة التي تنهي عن التفرق وتحضّ على الإجتماع، مثل قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيئ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) وغيرها كثير في القرآن والسنة.

إن معقد الولاء والبراء هو الإسلام لا غير، وقد تواترت في ذلك النصوص الصريحة، ومن أمثلتها: قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إنا الله عزيز حكيم) وغيره.

الإتجاه الثالث ـ إباحتها بشروط ضمن السياسة الشرعية:

1ـ السياسة الشرعية، أي تدبير الشؤون العامة للدولة الاسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار بما يلا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية، وإن لم يسبق إلى القول بها الإئمة المجتهدين، فهي متابعة السلف الصالح في مراعاة المصالح ومسايرة الحوادث وفق القاعدة سلفية المنهج وعصرية المواجهةمادام الأمر لم يخرج عن قوانين الشريعة الكلية ولم يصطدم بأصل كلي أو جزئي، والمراد شؤون العامة للدولة كل ما تتطلبه حياتها من نظم سواء كانت دستورية أم تشريعية أم قضائية أم تنفيذية، وسواء أكانت من شؤونها الداخلية أم من علاقاتها الخارجية ، فتدبير الشؤون والنظر في أساسها ووضع قواعدها بما يتفق وأصول الشرع هو السياسة الشرعية.

ـ الأصل في العقود والمعاملات الإباحة حتى يأتي ما يدل على التحريم، وهو الذي انتصر له عند كبير2 من أهل العلم منهم شيخ الإسلام إبن تيمة في الفتاوى وغيره، وهو الأليق بمقاصد الشرع والأقوم بمصالح المكلفين، وإذا كان ذلك كذلك وكان ترتيبا لأساليب الأزمة لوضع المبادئ الإسلامية في باب سياسة الدولة موضعا لتنفيذ من بابي العادات والعقود كان الأصل فيه هو الحلال حتى يأتي ما يدل على التحريم.

فإذا استخلصنا صياغة لتعددية حزبية تحقق المصلحة وتفي بالحاجة، وتصون الأمة من جور الحكام المستبدين، وتحفظ له حقوقها في الرقابة والحسبة، ولم تصطدم هذه الصياغة بم حكم في الشريعة سواء كان نصا جزئيا أو قاعدة كلية فإن الأصل فيه هو الحلال، وعلى مدعي المنع إقامة الدليل.

ـ ما يتم به الواجب به فهو واجب، فإذا استصحبنا هذه القاعدة لتطبيقها في مجال السياسة والحكم،3 لوجدنا أن الشريعة تأمرنا بجملة من المبادئ الكلية يتوقف وجوده أو حسن القيام بها في واقعنا المعاصر على التعددية السياسية ذلك، كالشورى، والرقابة على السلطة.

ـ قاعدة الذرائع والنظر إلى المآلات، فموارد الأحكام قسمان4:

أ. مقاصد: وهي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد في أنفسها، أي التي تعد في ذاتها مصالح أو مفاسد.

ب . وسائل: وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحليل أو تحريم.

والأصل في إعتبار الذرائع هو النظر إلى مآلات الأفعال ولا غني للفقيه من النظر في مآلات الأقوال والأعمال قبل إجراء الأحكام فقد يكون الشئ مشروعا ولكني منع باعتبار ماله، وقد يكون غير مشروع ويترخص فيه باعتبار ماله.

ـ صيانة الحقوق والحريات العامة، إذا رأت الأمة المظالم ولا يتأتى تحقيق مقصود الشارع في صيانة5 الحريات إلا بإنشاء هذه التكتلات الشعبية التي تحمي الفرد من عسف السلطة وجور الحكام، وتحقق لها السيادة على نفسه وعلى قراره في إطار سيادة الشرعية، ولا قبل للفرد الأعزل بالوقوف من فرد أمام استبداد السلطة، ولا يتسنى له ممارسة حقه في النقد والحسبة إلا من خلال إطار سياسي يكتسب من خلاله قوة الإجتماع، وينظم هذه الأراء المبثوثة بين الأمة كأفراد لتجد كأفراد لتجد طريقة إلى الرأي العام، ومن خلاله إلى مواقع المسئولين.

ـ السوابق التاريخية، حيث يستشهد بعض الذين يقولون بمشروعية التعددية السياسية بأن التاريخ6 الإسلامي شهد هذه التعددية في صورة الفرق الإسلامية، كالخوارج، والمعتزلة، والشيعة والمرجئة، ونحوهم، فهي التكتلات سياسية في الأصل، تحزبت حول اختيارات وبرامج سياسية، وإن كانت قد كست تحزبها السياسي لبوس الاختلاف العقدي والمواقف الدينية.

البقية في الجزء التالي

***

الياس أبوبكر الباروني ـ كلية القانون والعلوم السياسية – جامعة نالوت – ليبيا

___________

المصدر: مجلة أريد الدولية للعلوم الإنسانية والإجتماعية ـ المجلد الثالث، العدد السادس، يوليو 2021م

مقالات مشابهة