عائد عميرة

منذ عام 2011 شهدت ليبيا وعواصم عربية وغربية عدة مفاوضات سياسية لبحث سبل الخروج من الانقسام السياسي، وسجلت هذه المفاوضات غيابًا بارزًا للأحزاب السياسية، وحضورًا مهمًا لأفراد يمثلون قبائل ومؤسسات منقسمة، وهو ما يدل على ضعف الأحزاب، فجميع المبادرات إما تأتي من الخارج وإما من أفراد وإما من بعض المؤسسات التي يتحكم فيها أفراد كالبرلمان، ما أدى إلى فشل أغلب المفاوضات في الوصول لحل للأزمة الليبية، وتأزم الوضع أكثر ذلك أن كل الأطراف المفاوضة تبحث عن مصلحتها بعيدًا عن مصلحة الشعب الليبي الذي يأمل في الوصول لدولة يسودها القانون والمؤسسات.

يوضح هذا الأمر مسألةً مهمةً في ليبيا وهي غياب الأحزاب أو ضعف تأثيرها في الخيار السياسي.

فهل أثر ذلك على الانتقال الديمقراطي في هذا البلد العربي؟

وما الأسباب التي تقف وراء هذه الهشاشة الحزبية؟

ضعف الأحزاب

رغم أن الثورة الليبية سمحت بتأسيس الأحزاب بعد منع امتد لأكثر من 4 عقود، فإن العديد من المحطات السياسية التي مرت بها ليبيا منذ سقوط نظام القذافي أثبتت ضعف الأحزاب السياسية وغيابها في مرات عديدة عن ساحة الفعل السياسي والعام في البلاد، فحتى خلال التحضير للانتخابات لا يُسمع صوتًا قويًا لها، فالصوت الأبرز للرصاص أو التدخلات الأجنبية.

ومن بين تلك الأحزاب الليبية التي لا تظهر إلا في المناسبات، تحالف القوى الوطنية (ليبيرالي) أسسه بعد الثورة الراحل محمود جبريل رئيس المكتب التنفيذي للمجلس الوطني الانتقالي، وفاز في انتخابات المؤتمر الوطني العام سنة 2012، وحقق كذلك نتائج لافتة في انتخابات البرلمان سنة 2014، إلا أن دور الحزب تلاشى، خاصة بعد وفاة مؤسسه محمود جبريل، بفيروس كورونا عام 2020.

يضاف إلى جانبه، حزب العدالة والبناء (إسلامي)، تأسس سنة 2011 وفاز بالمرتبة الثانية في انتخابات المؤتمر الوطني العام، ويُعد من أكثر الأحزاب تنظيمًا من حيث الهيكلة ولم يعرف انشقاقات كبرى رغم مغادرة بعض قياداته، ومع ذلك تأثيره ضعيف في المشهد العام.

لا يمكن أن يكون هناك حزب سياسي مؤثر في غياب عملية سياسية

إلى جانب تحالف القوى الوطنية والعدالة والبناء، توجد أحزاب أخرى أقل وزنًا، لكن قادتها معروفون على غرار حزب الجبهة الوطنية بقيادة محمد يوسف المقريف (!!) الذي أسس الجبهة الوطنية للإنقاذ في الخارج في عهد القذافي، وانضم إليها حفتر لاحقًا. (تصحيح: الأمين العام لحزب الجبهة الوطنية هو الاستاذ عبدالله الرفادي)

يقع ضمن القائمة أيضًا حزب الاتحاد من أجل الوطن (فبراير) الذي أسسه عبد الرحمان السويحلي، وحزب الرسالة (إسلامي) لمؤسسه محمد العماري عضو المجلس الرئاسي، وحزب التغيير (ليبرالي) أسسه جمعة القماطي، والتجمع الليبي الديمقراطي (ليبرالي) لرجل الأعمال حسن طاطاناكي، وحزب الوطن (إسلاميبقيادة عبد الحكيم بلحاج، والاتحاد الوطني (أول حزب فيدرالي يسعى للدفاع عن حقول إقليم برقة في الشرق) بقيادة أبوبكر بعيرة، وتجمع المشروع الوطني الذي تأسس على يد محمود الفطيسي، والائتلاف الدستوري الذي يقوده عبد الحميد النعمي.

أسباب ضعف الأحزاب

لا يمكن أن يكون هناك حزب سياسي مؤثر في غياب عملية سياسية، وفق المتحدث السابق باسم المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق أشرف عبد القادر الثلثي، فالصراع في ليبيا لا يقوم على الفكر وإنما صراع قوة، فمن يكسب القوة على الأرض هو من سيفوز ويتحكم في القرار الليبي وقد رأينا ذلك في مناسبات عديدة، وفق قول الثلثي.

يرجع المتحدث السابق باسم المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق في حديثه لـ نون بوست، ضعف الأحزاب في ليبيا لأسباب عديدة منها: “العدد الكبير للتشكيلات العسكرية الموجودة على الأرض وانتشار السلاح في البلاد، وهو ما صعّب على المواطن الليبي مهمة الانتماء للأحزاب السياسية والنشاط ضمنها“.

يوجد في ليبيا أكثر من 29 مليون قطعة سلاح بين خفيفة ومتوسطة وثقيلة، فهي بذلك تضم أكبر مخزون في العالم من الأسلحة غير الخاضعة للرقابة، فبعد انهيار نظام القذافي انتشر السلاح في البلاد بشكل جنوني، وقد بدأ هذا الانتشار عن طريق تجار مدنيين (!!) ثم ما لبث أن تشكلت شبكات معقدة لتهريبه، منها ما ترعاه عشائر ومنها ما يتبع لتنظيمات وجماعات مسلحة.

كما تنتشر في البلاد مئات المجموعات المسلحة الثورية والدينية والقَبَلية، فضلًا عن المرتزقة والمقاتلين الأجانب (روسيا، سوريا، النيجر، تشاد) الذين يبحثون عن المحافظة على امتيازاتهم الكثيرة، والحصول على امتيازات أخرى مقابل اصطفافهم إلى جانب القوى المسيطرة.

يقول الثلثي إن عدم اهتمام المواطن الليبي بالعمل السياسي يعود أيضًا إلى غياب الثقافة الحزبية لدى الليبيين نتيجة الحرب التي شنها القذافي على الأحزاب وكل من له صلة بالعمل السياسي، ففي نظر القذافي كل من يعمل في السياسة وينتمي للأحزاب خائن لوطنه“.

يذكر أن القذافي حين استولى على حكم ليبيا في سبتمبر/أيلول 1969، أطلق جملته الشهيرة في كتابه الأخضر من تحزب خانوأصدر قانونًا ينص على إعدام كل من دعا إلى إقامة أي حزب من الأحزاب، ذلك ليقينه بخطورة العمل السياسي على سلطته.

يؤكد الثلثي أن الفكر الشمولي الديكتاتوري للقذافي القائم على القبضة الحديدية لم يسمح بأي نشاط سياسي في البلاد، فكل شيء كان قائمًا على شخص وليس على مؤسسات، فقد طارد القذافي المعارضين والأحزاب في الخارج والداخل، حتى إنه قام بتصفية نحو 1269 معتقلًا في سجن بوسليم معظمهم من سجناء الرأي“. نتيجة ذلك ورث الشعب الليبي عن القذافي كرهه للأحزاب، فهو يُنظر إليها كأنها تمارس عملًا مُحرّمًا وأن مناضليها خونة ووصوليون يريدون خطف ثمار الثورة من صانعيها الحقيقيين.

ظهر هذا الانطباع جليًا في منح الأحزاب 40% من المقاعد فقط في انتخابات المؤتمر الوطني العام سنة 2012 (أول انتخابات برلمانية تجري في البلاد ما بعد القذافي)، فيما تم منح 60% من المقاعد للأفراد المستقلين المدعومين عادة من القبائل والعشائر والعائلات الكبيرة.

ليس هذا فحسب، إذ خرجت مظاهرات سنة 2013، تدعو لحل الأحزاب وإلغاء أي دور لها في البرلمان أو الحكومة، ما جعل المؤتمر الوطني العام الذي يسيطر عليه المستقلون، يصدر قرارًا بمنع الأحزاب من المشاركة في انتخابات مجلس النواب التي جرت في 25 يونيو/حزيران 2014.

من أسباب ضعف الأحزاب الليبية أيضًا، وفق الإعلامي الليبي أنس المسلاتي، شيطنة العمل الحزبي في بلاده، ويقول محمد في هذا الشأن لـنون بوست“: “جرى شيطنة العمل الحزبي في ليبيا من بعد سنة 2013 من التيارات الجهوية والقبلية لتتم السيطرة على المشهد السياسي في البلاد بكل أريحية، تحت غطاء المظلة الجهوية، ما سيوفر لهم حصانة نوعًا ما، وليتمكنوا من فرض أنفسهم جهويًا على كل مشهد قادم سواء كان استحقاقًا انتخابيًا أم اتفاقًا سياسيًا أم في حكومة يفرضون عليها المحاصصة، ليستمر عبثهم بمستقبل البلاد بطريقة أو بأخرى“.

فشل الانتقال الديمقراطي السلسل في ليبيا إلى حدّ الآن يعود لأسباب عديدة على غرار التدخل الخارجي

كما أن لتركيبة المجتمع الليبي التي تأثرت تاريخيًا بالنظامين الملكي السنوسي والجماهيري بقيادة القذافي، دورًا مهمًا في ضعف أداء الأحزاب، إذ يختلط في ليبيا الحزبي بالعسكري بالقبلي بالجهوي، فتجد الأحزاب نفسها مرتهنة في أغلب الأوقات لجهة أو سلطة أقوى منها متحكمة في قرارها.

من أسباب الضعف كذلك، دخول الأحزاب السياسية في ليبيا في صراعات فيما بينها بحثًا عن مصالح قادتها الضيقة بعيدًا عن مصلحة ليبيا، ما جعلها تبتعد عن مشاغل المواطن الليبي الذي يطمح في رؤية دولة قوية ديمقراطية قوامها القانون والمؤسسات.

أثر غياب الأحزاب على نجاح الانتقال الديمقراطي

يعود فشل الانتقال الديمقراطي السلسل في ليبيا إلى حد الآن لأسباب عديدة على غرار التدخل الخارجي، لكن لغياب أحزاب فاعلة على الساحة دورًا مهمًا أيضًا في هذا الخصوص. في هذا الجانب، يرى أنس المسلاتي أن الأحزاب السياسية هي الأداة الأساسية والفعلية للتحول الديمقراطي ونجاح التجربة، لأنها تخلق بيئةً تنافسيةً في الحياة السياسية،وفق قوله لـنون بوست، ويضيف للأحزاب أيضًا دور محوري في التوعية والارتقاء بمستوى وعي المجتمعات بالديمقراطية، حيث ستخلق هذه الأحزاب تنافسًا فيما بينها لجعل المواطن يختار المشروع الأفضل في العملية الانتخابية“.

ويضيف المسلاتي غياب المؤسسات الحزبية في ليبيا عن المشهد منذ سنة 2014 ولّد ديمقراطية مشوهة، أفرزت إفرازات قبلية وجهوية زادت من حدة الصراع وهذه الإفرازات القبلية عمقت وزادت الانقسام في المشهد، وأصبح الصراع داخل قبة السلطة صراعًا جهويًا قبليًا، وليس صراعًا حزبيًا يرتكز على برامج ورؤى سياسية وخطط عملية، يتابع الإعلامي الليبي حديثه قائلًا: “نتيجة للهيمنة القبلية لم تستطع البلاد أن تذهب لأي استحقاق انتخابي“.

شهدت ليبيا بعد سقوط القذافي صراعات كبرى، إذ تتصارع الميليشيات والمجموعات المسلحة فيما بينها للاستئثار بخيرات البلاد الكثيرة، ما ولّد انقسامًا حادًا داخل مؤسسات الدولة وشاهدنا 3 حكومات في نفس الوقت وبرلمانين ومؤسسات مالية منقسمة.

السبيل إلى خلق أحزاب قوية

أثبتت التجارب السابقة حاجة ليبيا لأحزاب سياسية قوية، ويتطلب الوصول إلى ذلك وفق أشرف عبد القادر الثلثي وعي وعمل مؤسساتي كبير، فضلًا عن وجود قادة سياسيين قادرين على أن يخاطبوا ضمير الأمة الليبية ويقنعوا الناس بطرحهم وأفكارهم وضرورة الالتفاف حولهم لإنقاذ البلاد“.

بدوره يقول الكاتب الصحفي سالم الحريك: “السبيل للوصول إلى أحزاب قوية يكمن في قدرة هذه الأحزاب على إقناع التكتلات المختلفة والمكونات الاجتماعية الليبية بجدوى عملها، وهو ما يعتبر من صميم عملها أي على الأحزاب أن تثبت وجودها من خلال عملها الميداني وليس فقط البلاغات“. ويضيف: “على الأحزاب السياسية أن تعمل على إزالة الهواجس والتخوفات لدى عامة الشعب، وتأكيد سعيها حقًا لإعلاء مصلحة الوطن ولا أن تكون مجرد أحزاب ذات إيدولوجيات ضيقة أو مدعومة من دول خارجية“.

من جهتها تؤكد الأكاديمية والناشطة السياسية الليبية فيروز عبد الرحيم النعاس أن الأحزاب في ليبيا ضحية الفشل في الانتقال الديمقراطي التدريجي للسلطة الذي بدأ بداية مباشرة بعد سقوط القذافي حتى انتخابات المؤتمر الوطني العام وتغيير الحكومة، فالأحزاب لا تكون قوية إلا في ظل نظام ديمقراطي سليموفق قولها.

الأحزاب السياسية في ليبيا لم تكن موجودة قبل ثورة السابع عشر من فبراير بعدما كان مهيمن على الحكم نظام القذافي وبعد اندلاع ثورة 17 من فبراير تشكلت احزاب عديدة للمشاركة في المسار الديمقراطي على الاحزاب اخذ دورها في مسار التطوير والبناء وخلق فرص منافسة لنهضة ليبيا

تضيف فيروز عبد الرحيم النعاس في حديثها لـ نون بوستأن الوصول إلى أأحزاب قوية يحتاج وجود وعي مجتمعي بأهمية الأحزاب السياسية لضمان نظام سياسي ديمقراطي، بالإضافة إلى تأكيد الممارسة الديمقراطية الحقيقية داخل الأحزاب وتطبيق المعنى الحقيقي لتداول السلطة في المناصب القيادية بالأحزاب وألا تكون أحزاب أشخاص أو عائلات أو تحتكر القيادة فيها على مجموعة أو فئة معينة“.

وترى الناشطة الليبية أنه يجب العمل أيضًا على تحفيز الشباب والشابات على الانخراط في العمل الحزبي بتقديم نماذج حقيقية عن مبادئ وقيم الديمقراطية ليقتدي بها الشباب وتكون نبراسًا ترشدهم للطريق الحقيقي لممارسة العمل الحزبي“. كما شدّدت على ضرورة أن تكون الانتخابات سواء نيابية أم رئاسية أم بلدية على أساس مشاركة الأحزاب، فالأحزاب هي من تستطيع التخلص من المحاصصة القبلية والمناطقية والجهوية، وهي من ترسخ مفهوم الدولة المدنية ودولة المواطنة“.

تحتاج ليبيا إلى أحزاب قوية للمساهمة في خروج البلاد من أزماتها المتعددة، ذلك أن غياب الأحزاب عن المعترك السياسي في ليبيا وترك مكانها فارغًا سمح للعديد من القوى القبلية والشخصيات المدعومة من الخارج بفرض رؤيتها وتوجهها على الليبيين، ما ساهم في تأزيم الوضع.

_______________

مقالات مشابهة