الاستراتيجية تعني في بُعدها الزمني ذلك التفكير طويل المدى الذي يُحدّد، عبر أهم الإمكانيات والفُرَص المتاحة، النهج الذي يجب أن تسير فيه الدولة نحو تحقيق أهدافها الكبرى.

التجربة الليبية خلال العشرية الماضية، عانت من فشل المؤسّسات السياسية (التشريعية والتنفيذية والقضائية) في القيام بأدوارها الحقيقية (التأسيسية والدستورية والتسييرية) مما فتح الأبواب أمام سيطرة العنف والفوضى وعدم الاستقرار على كل المجالات، وجاء تَعاقُب الحكومات الانتقالية المعيّنة عقبة كأداء عقّدت المشاكل بدلا من حلّها.

عانت ليبيا خلال العشرية الراهنة من ثلاث لعنات:

أولا: لعنة النفط

خلفت الهزات الإقتصادية العنيفة التي عانت منها المصادر الحيوية للبلد (انقطاعات النفط مثلا) نتائج سلبية مباشرة على الاستقرار السياسي والأمني والإجتماعي، وعلى مستوى الأسعار وعلى حجم السيولة وعلى أجور القطاعين العام والخاص وعلى نسبة البطالة.

وكان العامل المساعد والضامن للوصول لهذه النتائج العكسية استحواذ الحكومة على القطاعات الحيوية بلا نتائج إيجابية تذكر، وانتشار السلاح والفوضى الأمنية والاحتراب المدمر، مما مكّن العسكر والمجموعات المسلحة من السيطرة على الاقتصادات الموازية من خلال تنفيذ جرائم الخطف والابتزاز والتهريب وتضييع ثروة البلاد وأصولها المالية.

ثانيا: لعنة السياسة

كشفت التجربة أن الحراك الليبي أَجهزَ على القليل الذي تبقى من معالم المؤسساتية في الدولة الليبية التي عانت أكثر من أربعة عقود من الإهانة والتفتيت والتهميش والتسفيه.

ولم تقدم الحكومات الانتقالية المتعاقبة، مشاريع واضحة كبدائل لإقتصادات الريع والتبعية، ولم تستطع المؤسسات الرقابية والقضائية تحجيم أو تغيير واقع المؤسسات التشريعية والتنفيذية (المدنية والعسكرية) التي نخرها الفساد.

وفي المقابل، أغلب المجموعات الأيديولجية (الاسلامية والقومية والليبرالية والشعبوية) وأيضا (القبلية والجهوية والانفصالية)، بل كلها تطاولت على خصومها والشعب عموما، بخطاب تحريضي وشعارات تعبوية، لا تناقش أو تطرح الحلول العملية لمشاكل البلاد، بل يسودها الطعن في الاشخاص والتيارات والانتماءات والسعي لإقصائها، دون البحث عن مكامن الوهن الحقيقية.

ومن جهة أخرى، كان التدخل الخارجي (المتواطئ) عامل هدم وتشظي للمشهد، ولم يمكّن الأطراف الوطنية المهمشة والمنقسمة، من التقاط انفاسها ليفكروا ويخططوا لمستقبل البلاد دون تدخل المخابرات الدولية.

ثالثا: لعنة عدم الثقة

النخب السياسية الوطنية عانت ولا تزال تعاني من أزمة ثقة رهيبة في ذواتها وفيما بينها، ولم تستطع أن تؤسس لحياة سياسية ديمقراطية واعدة، بعيدة عن سلوكيات الاستعلاء والإقصاء والاستفراد بالقرار الوطني. وبذلك تضاءلت ثقة المواطنين بهم وفي استقلاليتهم.

المزاج العام المُحبَط الذي خلفته التجربة الليبية، جاء نتيجة اكتشاف المجتمع الليبي التواق للتغيير أن الذين تصدروا المشهد، على مختلف توجهاتهم، فشلوا فشلا ذريعا خلال عقد من الزمان، ولا يمكن أن يقدموا في المستقبل حلولا إعجازية للواقع السياسي المتردي.

وبالتالي، نحن طرح جملة من التساؤلات على النخب السياسية والعسكرية المتصدرة للمشهد:

  • هل يمكن اليوم أن تتجاوزوا خطابكم التقليدي الديماغوجي وتطرحوا بدائل عملية قادرة على بناء مؤسسات سياسية حقيقية؟
  • وهل يمكن أن تتوقفوا عن المناكفة واللعب بأوراق سيئة ومكشوفة، وتوقفوا البروبغندا، الذي تميع الفعل السياسي وتثبّط العزائم وتهزّ القناعات في مستقبل البلاد وإمكانية التحول السلمي نحو الدولة المدنية الدستورية الديمقراطية.
  • وهل سترضون أيها القيادات العسكرية بترك السياسة وتركزوا على دوركم الوظيفي في حماية الأمن الداخلي والدفاع الخارجي؟

____________

مقالات مشابهة