الحسين بن عمر

تعدّديّة حبيسة الفرز القبلي والعائلي

لئن عرفت ليبيا منذ قيام الدولة الوطنية وإلى حين سقوط النظام الملكي، في الأول من سبتمبر 1969، انتخابات دورية؛ أفرزت برلمانات أدت أدوارا سياسية وتشريعية مؤثرة، فإنّ ذلك لا يخفي أن التعددية التي وسمت مختلف البرلمانات لم تضمن الانتقال من الفرز التقليدي؛ المناطقي والقبلي والعائلي، إلى الفرز السياسي الحديث؛ القائم على المشاريع السياسية والبرامج.

فطيلة ما يقارب العقدين لم تفلح دورية الاستحقاقات الانتخابية وتكررها في تطوير الحياة السياسية والبرلمانية، وظلت جلّ مخرجات الصندوق انعكاسا لميزان القوى؛ القبلي والاجتماعي والمالي، وظلت، معها، معظم المناصب الحكومية والوظائف العليا في الدولة غنائم من نصيب القبائل والعائلات النافذة، مع استثناءات قليلة لا تلغي التوجه العام في هذا الشأن. فمن 1951 إلى 1969، تداولت على السلطة 11 حكومة؛ أغلب من تقلدوا فيها رئاسة الوزراء من العائلات والقبائل النافذة؛ عددا أو مالا، ولم يكن بينهم أي رئيس وزراء من القبائل و

يرى المؤلّف أنّ تواصل معايير الفرز؛ الاجتماعية والسياسية، التقليدية، أدّى إلى إفراغ شكليات التحديث؛ من انتخابات وبرلمانات وحكومات وتشريعات، من غائيتها ومضامينها، وإلى تحوّلها إلى أدوات لإعادة إنتاج البنى الاجتماعية دون تطوير يذكر. وأضافت الثروة الريعية، منذ بدء تسويق النفط، وتدشين مشاريع إنمائية بتكاليف مالية عالية، عقبات جديدة أمام التحديث السياسي، باستشراء الغنائمية والإثراء غير المشروع ونهب المال العام عن طريق المناصب والنسب وصلات القربى والمحسوبية ودوائر النفوذ.

وبالرّغم من ذلك، يقرّ المؤلّف بأن الحاصل، لما يقارب العقدين من التحديث، لم يكن منعدما. فعلى مستوى مأسسة السلطات، بدأت البلاد تسلك طريقها، ببطء، نحو ملكية دستورية؛ تتمتع فيها الحكومات بهامش حركة واسع في المهام التنفيذية، كما تلعب فيها السلطة التشريعية أدوارا رقابية تصل حد إسقاط الحكومات؛

وهو ما حصل في أكثر من مناسبة، وتفعّل فيها سلطة القضاء واستقلاليته عن السلطة التنفيذية، بما مكنه من إبطال مراسيم ملكية لعدم دستوريتها؛ على غرار الحكم الصادر في خصوص حل المجلس التشريعي الطرابلسي سنة 1954م.

السياق الثقافي والاجتماعي وصعوبة التحديث

يشير خليفة علي حداد إلى أنّه يجدر الاعتراف بصعوبة مهمة التحديث في مجتمع ظل محكوما، لقرون، بنواميس قبلية صارمة، زادتها المساحة الجغرافية المترامية وغلبة الطبيعة الصحراوية وتواضع عدد السكان، ترسّخا، وحدّت من فرص التواصل، وحالت دون حدوث ديناميكية اجتماعية وتفاعلات ثقافية بين مختلف المكونات.

وفي كل الأحوال، لم يكن الحيز الزمني الذي استغرقته تجربة التحديث السياسي والاجتماعي منذ إقرار الدستور وتأسيس الدولة الوطنية إلى حين الانقلاب العسكري، في أيلول (سبتمبر) 1969؛ والمقدر بأقل من عقدين، يسمح بالمضي في المراكمة وتأصيل القيم والمفاهيم الحداثية؛ في الدولة والمجتمع، والتطبيع معها في سياق ثقافي واجتماعي تقليدي نابذ.

الكتاب الأخضر“.. مشروع تحديث أم مسار تفكيك؟

يعود الكاتب على ما عرف بخطاب النقاط الخمسالذي ألقاه معمر القذافي في مدينة زوارة الأمازيغية، بتاريخ 15 أبريل/ نيسان 1973، والذي أكد فيه تعطيل كافة القوانين الرجعيةواستبدالها بقوانين ثوريةوشعبية، وتطهير البلاد من المعارضين؛ الذين أطلق عليهم وصف المنحرفين، وعلى منح السلطة والثروة والسلاح للشعب ومنعها عن أعدائه، وإطلاق الثورة الإدارية، والثورة الثقافية.

عقب الخطاب، مباشرة، باشرت الأجهزة الأمنية والتعبوية والإيديولوجية حملات واسعة لاعتقال المشتبه في خروجهم عن السياق الرسمي وسجنهم وإعدام بعضهم في الميادين العامة وساحات الكليات والثانويات، واقتحام الجامعات والمدارس، وحرق كتب الأدب والفكر والفلسفة واللغات والمسرح، والآلات الموسيقية الغربية؛ التي لا تتماشى والثورة الثقافية، وعمدت إلى التضييق على الخيارات الشخصية في اللباس والمظهر، وتشكيل لجان شعبيةتتولى التسيير على مستوى المدن والقرى والقطاعات المهنية، وأخرى ثورية؛ بمثابة الجهاز الإيديولوجيالعقائديالأمني الذي يضمن الولاء للقائد ويتصدى لأي خروج عنه.

وفي سياق تأسيس مرجعية أيديولوجية لنمط الدولة الجديد، أصدر القذافي، سنة 1975، الكتاب الأخضر؛ الذي تضمن ثلاثة أجزاء؛ اتصل الجزء الأول منها بحل مشكل الديمقراطية عن طريق سلطة الشعب، وتناول الثاني حل المشكل الاقتصادي عبر الاشتراكية، فيما أطلق على الثالث مسمى الركن الاجتماعي للنظرية العالمية الثالثة“.

وجه القذافي معظم الجزء الأول من الكتاب الأخضرلتسفيه آليات الحكم في الدولة الحديثة؛ من برلمان وحكومة وانتخابات وأحزاب، معتبرا أن التمثيل تدجيل، وأن الحزب هو الدكتاتورية العصرية، وأن الانتخاب والاستفتاء أقسى وأقصى نظام دكتاتوري كبحي“.

الحكم المباشربديلا عن الدستور

مقابل تسفيه مؤسسات الدولة الحديثة وأدواتها، قدم القذافي ضربا جديدا من الحكم المباشر عن طريق آلية المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية؛ التي تنطلق من المؤتمرات الشعبية الأساسية على مستوى المدن والقرى، وبالتوازي مع ذلك يتم إنهاء الإدارة الحكومية لتحل مكانها اللجان الشعبية، ومن ثم تلتقي أمانات اللجان الشعبية والمؤتمرات الشعبية في مؤتمر الشعب العام“.

وانسجاما مع منهج تسفيه آليات الدولة الحديثة، اعتبر القذافي أن مهمة التشريع؛ التي تتولاها المجالس النيابية، باطلة وغير ديمقراطية، وأن الدستور هو الأسلوب الذي تبتغيه أدوات الحكم في السيطرة على الشعوب، مقدّما شريعة المجتمع؛ التي تقوم على العرف والدين، بديلا عنه.
وتلعب الجماهير أو الجماعات دورًا مهمًا.

من وجهة نظر أيديولوجية، يتم تصوير هذه المجموعات على أنها مجموعات من الأفراد المرتبطين ببعضهم البعض من خلال روابط طبيعية؛ وهو مفهوم يشير إلى الخيال القبلي ويفترض تنظيمًا للمجتمع يكون فيه للجماعات الأسبقية على الأفراد الذين لا يكون لفعلهم معنى إلا في الحد الذي يتناسب مع المشروع الجماعي، أي مشروع الجماهير؛ ليس بالمعنى الذي تحدث به كارل ماركس عن جماهير البروليتاريا، ولكن بالمعنى القبل

يرى المؤلف خليفة علي حدّاد أنّ القراءة الموضوعية لمآلات التحديث السياسي والاجتماعي في ليبيا تذهب إلى أن المشاريع التي بدت، في منطلقها، هادفة إلى إحداث تغييرات عميقة لتطوير ثقافة المجتمع وتفكيك المنظومات التقليدية وتطوير البنى التحتية للدولة، وتحقيق رفاهية المواطن وإشباع حاجاته المادية، لم تتجاوز التحديث المادي إلى التحديث الذهني والاجتماعي والثقافي والمؤسساتي، وآلت، في نهاية المطاف، إلى ضرب من بدونة” السياسة والمؤسسات“.

إلى حدود ظهور الدولة الوطنية كانت المؤسسات الاجتماعية التقليدية هي الحواضن الحقيقية والصريحة للفرد، وكانت تراتيبها وأنظمتها وشرائعها وبناها الثقافية هي المرجعية التي يحتكم إليها، وتحدد أدواره ومكانته، وتوجه سلوكه الفردي والاجتماعي، وتصوغ رؤاه، غير أن الدولة الوطنية، خصوصا بعد 1969، أقامت مؤسساتها دون تغيير هذه البني التقليدية بما يتماشى ومتطلبات الدولة الحديثة وفلسفتها، فأضفت الصفة الرسمية عليها، وحوّلتها إلى فعل موجّه وممنهج بعدما كانت ثقافة وبنية اجتماعية تراكمية.

مأسسة النظام الجماهيري والمحافظة على البنى التقليدية للسلطة

يخلص المؤلف إلى أنّ مأسسة النظام الجماهيري لم تفض إلى القطع مع البنى التقليدية للسلطة والمجتمع، فقد تحوّلت آلية التصعيد؛ التي يتم عبرها إفراز أعضاء المؤتمر الشعبي العام (ما يقابل البرلمان في الدولة الحديثة) واللجان الشعبية العامة (ما يقابل الحكومة في الدولة الحديثة)، ومنظومة القيادات الاجتماعيةالتي أضيفت للهياكل الأخرى، مطلع التسعينات، إلى إعادة إنتاج التراتبية الاجتماعية والنفوذ القبلي وشبكات الغنيمة؛ بما يضيّق دائرة المشاركة في السلطة والمال والاعتبار حتى داخل الأطر المحيطة بالنظام، لتتكثف السلطة / الدولة، مقابل ذلك، حول الحاكم الفرد وأسرته وحزامه الأمني والمالي والقبلي.

ورغم أن نظام الحكم في ليبيا يبدو نظاما فرديا مطلقا، منذ منتصف السبعينات إلى 2011، فإن حكم الفرد بنى، مع مرور الوقت، رافعة اجتماعية ومالية وأمنية، مثّلت الحزام الذي يضمن له الاستقرار ويمكنه من التحكم في التوازنات الاجتماعية والجهازاتية، ويحول دون نشوء وتمأسس أي نزعة مدنية معارضة أو نشوز منظم عن السياق.

ثورة فبراير والانهيار السريع لشكليات الدّولة وأجهزتها

ينتهي المؤلف المتقصّي في نهاية بحثه عن مسارات التحديث في ليبيا بين 1951 و2011 إلى أنّه رغم التغيرات العميقة التي شهدتها البلاد خلال هذا الحيز الزمني في مجال التحديث المادي، خاصة بعد ولوج عصر الاقتصاد الريعي، فإن الانهيار السريع لشكليات الدولة وأجهزتها، ونكوص المجتمع إلى الحواضن التقليدية؛ القبلية والجهوية والاثنية، والتشظي العميق الذي فتّت البنى الاجتماعية، وتراجع قيمة المواطنة لصالح شروط فرز وتراتب ما قبل حداثية؛ مؤشرات دالة على أن التحديث المادي النسبي لم يرافقه تحديث اجتماعي وثقافي وذهني بنفس القدر، ما يمنح المشروعية للتساؤل عن تصنيف المشاريع السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد، على امتداد ستة عقود، وعما إذا كانت مشاريع تحديث، فعلا، أم مجرد إجراءات قصيرة المدى وأدوات للحكم والضبط وضمان استقرار المؤقت، وعن جديّة النخب ومدى تملكها رؤى وأهدافا وغائيات لإحداث تغييرات بعيدة المدى من شأنها تجاوز البنى الاجتماعية والثقافية التقليدية، وعن ديناميكية المجتمع نفسه ومدى قابليته للتحديث في هذا الحيز الزمني في ظل تراكم الثقافة التقليدية على امتداد قرون.

ويضيف المؤلّف بالقول إنّ أسئلة التحديث السياسي والاجتماعي في ليبيا تزداد حرجا وتعقدا في ظل تهتك الهيئة الاجتماعية، وتشظي شكليات الدولة، وانهيار الأمن الفردي والجماعي، وتراجع مستوى المعيشة؛ ما يطرح أسئلة جديدة حول ترتيب الأولويات، في اللحظة الراهنة، وعما إذا كان التوافق على مشروع وطني جاد وواقعي للتحديث السياسي والاجتماعي طويل الأمد شرطا للخروج من المختنقات الحالية، أم أن أي مشروع تحديثي مشروط بالخروج من المشهد الحالي المأزوم؟

***

الكتاب: “ليبيا: الدّولة وما دونها؛ قراءة في مسارات التحديث من 1951 إلى 2011 م
المؤلّف: خليفة علي حداد
النّاشر: دار الروّادطرابلس
الطّبعة الأولى: 2022

___________________

مقالات مشابهة