صبرين العجرودي

ثالثا: بارانويا الحصار ونظرية المؤامرة

أولا يقصد بـ البارانوياعملية التفكير المستمر والشك غير المنطقي لدى المريض به بأن هناك تهديدات وخطر داهم ومؤامرات تقوم عناصر معينة ضده.

تعتبر بارانويا الحصار أحد أهم العناصر المهمة أيضا في الدولة العميقة، باعتبار أنها تبرر دور الوصي والحارس على الدولة الوطنية، ويقع ذلك عن طريق إيهام المجتمع بأن هناك خطرا خارجيا يهددهم ومندسين داخل الحكومة يعملون لصالح هذه الأطراف الخارجية وبذلك فالدولة العميقة تستمد منطق وجودها من خلال بث البارانويا والإقناع بسياسة المؤامرات حتى بين أعضائها.

تسعى الدولة العميقة للترويج لكون هناك أعداء إقليميين أو عالميين أو عناصر أخرى سريّة في غاية الخطورة تتآمر على الدولة ويخططون من أجل السيطرة عليها وعلى ثرواتها، ومن خلال ذلك تُشرعن خططها ومؤامراتها بتعلّة مناهضة أعداء الوطن الخارجيين ومسانديهم من الداخل، أو بما يعتبرونهم خونة الدولة الوطنية وبيادق القوى الخارجية.

ومن خلال هذه الأفكار المتمثلة في منطق الوصاية وبارانويا الحصار تتفادى أي محاولات داخل الدولة في القضاء عليها أو محاسبتها على خططها التآمرية وجرائمها فهي سرية على مستوى تنظيمها وطرق عملها والعناصر التي تكوّنها وتقودها.

لكنّ وجودها لا يعتبر سرّا بل إنها تظهر نتيجة الاعتقاد بأهمية دورها من الدولة والحكومة والمجتمع في حدّ ذاتهم وقد ساهم ذلك في تمتّعها بسلطة استثنائية بعيدة عن خصائص السلطة القانونية، ففي بعض الأحيان تتنازل الدولة عن بعض الحاكمين خدمة لمصلحة الدولة العميقة.

وتلخيصا لما ذكر فإن منطق اشتغال الدولة العميقة هو خلق صراع وأعداء وهميين وجعل المجتمع والبنى الاجتماعية دائما في حالة خوف وارتياب وإحساس متواصل بوجود مؤامرات تحاك ضد أمنهم وتهددهم مما يخلق لديهم الحاجة إلى وجود قوة موازية تعتمد على نفس آليات العدوى من مؤامرات وجرائم واغتيالات تقضي على عدو الدولة الوطنية وتحقق غايتهم في الشعور بالأمان وهذه القوة هي الدولة العميقة.

فكلما تعمقت الفجوة بين الحكومة والشعب ازدادت شرعيتها وتمكنت من تحقيق مصالحها مقابل مزيد من هشاشةالدولة الوطنية، والسير بخطى ثابتة نحو تفكك بناها واحدة تلو الآخرى.

فالدولة العميقة هي في حرب غير مباشرة مع الدولة الشرعية، حرب تتغذى من ضغوط البنى التحتية الاجتماعية والفوضى وخوف الحكومات والإحساس بالحاجة إليها.

رابعا: الزبونية

تشكل الدولة العميقة سببا ونتيجة في نفس الوقت للبارانويا، ذلك لأنها تروّج لها وتسلط الأضواء عليها حتى تبين مقدار حاجة الدولة والمجتمع والحكومة لها، إلا أن هذا العنصر لا يعتبر كافيا حتى يبني القوة التي تبدو عليها الدولة العميقة.

من المؤكد أن الدولة العميقة بحاجة إلى بناء علاقات مع الدولة والمجتمع تستطيع من خلالها أن تحقق أهدافها، فاذا ما افترضنا أنها منعزلة عن بقية عناصر الدولة فذلك سيشكل حتما عائقا أمام مصالحها خاصة وأن الحكومة تسيطر على أغلب مؤسسات الدولة.

لذلك هناك حاجة ملحّة لبناء علاقات زبونية يمكن أن نطلق عليها أيضا بالنفعية (براغماتية) بحيث تكون هذه العلاقات مرتكزة أساسا على المصالح المتبادلة، وذلك ما يبرّر العلاقات القائمة في عديد البلدان بين المافيا ومسؤولي الحكومة.

ففي تركيا مثلا خلال فترة التسعينات تمكّنت المافيا من التغوّل في المؤسسات الأمنية والاستخباراتية، وقد وضعت تحت سيطرتها الكثير من القادة السياسيين والعسكريين الذي تآمرت معهم، حيث تستغل الحكومة التركية قدرة المافيا على ارتكاب الجرائم ومخالفة القانون لتحقّق مصالحها، في مقابل قيامها بحماية المافيا من التّتبع والمحاسبة على الجرائم التي ارتكبتها.

وذلك ما يفسّر الاغتيالات والجرائم التي يظلّ مجهولين لدى الرأي العام، ففي الحقيقة هي في قلب الدولة العميقة المتآمرة مع الدولة والنخب السياسية الحاكمة.

وبذلك فنحن نتحدث عن علاقات زبائنية في الدولة العميقة مقابل عمليات انتخابية أو كسب للدعم الشعبي في الدولة الوطنية، ومثلما تشهد الأخيرة صراعات بين السياسيين حول الهيمنة والسلطة فإن عناصر الدولة العميقة تتصارع فيما بينها من أجل تحصيل أكبر قدر من الامتيازات في العلاقات الزبائنية التي يمكن أن تتخذ أشكالا في غاية التطور ببناء هذا النوع من العلاقات مع المنظمات العالمية الاقتصادية والسياسية لتستغلها كوسيلة ضغط على الدولة الوطنية.

تأثيرالدولة العميقة في المجتمعات

ـ لماذا تعتمد الدولة العميقة على الأجهزة الأمنية؟

يجدر الإشارة إلى أن الدولة العميقة تزداد قوة كلما زادت الدولة الوطنيةضعفا وهشاشة سواءً على مستوى مؤسساتها وأجهزتها ومختلف أنظمتها، حتى أنها تلعبكثيرا على العقل الجمعي للمجتمع والمخيال المجتمعي، من ذلك القم والمعتقدات والتمثلات الذهبية والمنظومة الأخلاقية.

لذلك هي تركز أولا على حاجة المجتمع ومواقفه وتسعى إلى السيطرة على العنصر الأقوى في نظرها والبعيد عن البارانويا التي تروّجها لتوظفه في خدمة مصالحها، فالدولة العميقة تتغذى على فكرة أن التغيرات في الأنظمة السياسية تحصل في المجتمع عن طريق الصراعات والانتفاضات.

وعادة ما يكون للقوات المسلحة التي من أبرزها الجيوش والقوات شبه العسكرية دور بارز في السلطة أو هي التي تطلق شرارة التغيير والانقلاب على الحكام، لذلك كثيرا ما تعوّل الدولة العميقة على القوات المسلحة والجيوش، وتعتمد عليها باعتبار الشعوب عموما تعبر عن سخطها اتجاه النخب السياسية لا القوات المسلحة، بل على العكس تماما هي تعتمد عليها باعتبارها قوة قاهرة على المهيمنين على السلطة والسياسيين وليست هي المستهدفة من الثورات الشعبية، ولذلك تستثمر الدولة العميقة في الجيوش.

النقطة المهمة في هذا السياق هي أن المنظومة العسكرية لا تعد عنصرا ثابتا من عناصر الدولة العميقة، بل إن الأخيرة دائما ما تسعى إلى احتوائها والسيطرة على هذه المنظومة لتوظيفها في خططها نظرا لأهميتها ومكانتها الاجتماعية، ويمكن القول أنها وسيلة للانقلاب واعلان السيطرة وليست عنصرا يخدم مصالحها بكامل إدراكه.

ماذا عن القول بانهيار الدولة العميقة؟

هل يمكن أن تنجح الحرب ضد الدولة العميقة؟

قد يجمع الكثير من الاطراف المحللين للأوضاع السياسية بأن امكانية خوضهم الحرب ضد الدولة العميقة أمر لا يكتسيه ذلك القدر من الصعوبة، حتى أنهم يشيرون بأن كسب هذه الحرب أمر يمكن تحقيقه إذا ما توفرت جملة من المتغيرات المتعارضة مع العناصر الأساسية التي ترتكز عليها الدولة العميقة.

وبالعودة إليها، يسعنا القول:

ـ أن الأجهزة الأمنية بما تتضمنه من قوات مسلحة ونظم عسكرية رسمية وغير رسمية تعتبر النواة الأساسية في الدولة العميقة، ونظريا يمكن أن تتراجع الاخيرة بزوال عناصرها الأمنية واصطفافها في الجهة المقابلة، لكن هذه المعادلة لا يمكن أن تحصل بأي شكل من الأشكال طالما استمرت مغريات الدولة العميقة وتفوّقت على بقية الأطراف.

ـ تعتمد الدولة العميقة على جملة من المبررات لكي تشرعنوجودها داخل الدولة رغم انعدام شرعيتها، حيث أنها تقنع الأفراد بضرورة الاعتماد عليها بعيدا عن إكراهات الدولة وضغوطاتها البيروقراطية، حينها يلجأ الأفراد إلى الطرق الملتوية التي تمثل منطق اشتغال الدولة العميقة لأنها كانت قد غرست فيهم الشعور بانعدام الثقة اتجاه الحكومات وكل العناصر الرسمية للدولة الوطنية وجعلتهم في حاجة دائمة إلى مخالفة القانون حتى يتمكنوا من تحقيق مصالحهم التي يرون أنها منافية لقواعد الدولة.

وينبغي القول في هذا الإطار أن اضمحلال الدولة العميقة يرتبط ارتباطا وثيقا بغياب منطق الوصاية وزوال قناعة الأفراد بضرورة وجودها وتخلصهم من الأفكار القائلة بضرورة لجوئهم إلى أساليب الدولة العميقة مقابل زيادة ثقتهم بالقانون والمنطق الذي تشتغل به الدولة الشرعية، لكن ذلك لا يعتبر سهلا على أرض الواقع، بل ولا يمكن منطقيا القول بوجود دولة خالية من أطراف تقدم الولاء للدولة العميقة، ليس لشئ وإنما لسعيهم المستمر وراء تحقيق مصالحهم.

يرتبط ذلك في حقيقة الأمر بدرجة الثقافة السياسية والوعي الاجتماعي بالديمقراطية، حيث أن انعدامها يغديان استمرارية الدولة العميقة.

كلما ارتفع الشعور بوجود تهديدات خارجية ومؤامرات سياسية زاد الخوف وارتفع الشعور بالحاجة إلى وجود الدولة العميقة، لذلك فأن اطمئنان الشعوب وشعورهم بالأمان يقضي على الشرعية التي يمكن أن يقدموها حتى تتواجد.

تقنع الدولة العميقة الحكومات بوجود تهديدات تترصدهم لذلك فإن نجاحها يرتكز أيضا على ربطها علاقات زبونية مع أطراف داخل الدولة حتى تتمكن من قضاء مصالحها مقابل استغلال بعض عناصر الدولة الوطنية، أي قدرة الدولة العميقة على ارتكاب الجرائم والقيام بأعمال غير قانونية، وذلك لا يمكن له الحصول.

بالتالي نستنتج أن الحرب على الدولة العميقة تكون عملية خاسرة ذلك لأن العناصر التي تستمد منها وجودها وقوتها موجودة لا محالة في كل دولة وطنية ولو بدرجات مختلفة، أي أن وجود الدولة العميقة أمر إلزامي مهما اختلفت درجت قوتها لأن هناك بعض الآليات السياسية التي لا يمكن التنازل عنها أو سير عجلة الدولة بدونها.

لذلك نجد أن كل السياسين تقريبا لا يحاربون الدولة العميقة أو على الأقل لا يعلنون عنها ويدخلون في صراع معها لأن نتيجتها لن تكون إلا الخسارة.

***

صبرين العجرودي ـ قسم البحوث والدراسات، المركز الدولي للدراسات الاسترتيجية الأمنية والعسكرية بتونس

_____________________

مقالات مشابهة