لم تنجح الدولة العربية المعاصرة، بشكل عام، في إيجاد جو من الطمأنينة لدى مواطنيها مبنيّ على تحقيق العدالة الاجتماعية، ورعاية الإنسان، وحفظ الحقوق والأمن، وتحقيق سبل المشاركة الشعبية، كما أنها لم تفلح، على مدى أكثر من نصف قرن، في تقديم نفسها بوصفها تجربة وطنية وحدوية ناضجة يعتمد عليها المواطنون ويركنون إليها، ويعيشون في وحدة مجتمعية حقيقية بعيدا عن تعددهم المجتمعي قبليا وجهويا ومناطقيا.

ويعود عدم نجاح الوحدة المجتمعية بسبب أن الدولة لم تكن قوية وناضجة وقادرة على تحقيق متطلبات الوحدة المجتمعية على الوجه الأكمل.

الدولة العربية الحديثة وُلدت مصحوبة بقصور سياسي مؤسسي، ومترافقة مع ضعف الوعي السياسي لدى شعوبها، وهي أيضا دولة تستفرد فيها النخب الحاكمة بالسلطة والبلاد والعباد.

وهي دولة يغلب عليها الإذعان للخارج، وتغليب مصالح فئات معينة على المصلحة العامة في البلاد، وهناك أيضا ضعف في التنمية الوطنية لأنها تنمية لديها قصور ذاتي وإداري في التعامل مع الموارد والطاقات، حيث أنها لم تتبن آليات الإدارة الحديثة، وليس لها حسّا إصلاحيا وطنيا، ولم تفسح المجال لمؤسسات المجتمع المدني كي تعمل بحرية لأداء مَهمّات الضغط والمراقبة والتمثيل.

فالدولة هي التي مهدت الطريق للبنى العصبوية التقليدية لأن تتمركز في جسد الوطن، و تمارس إعادة إنتاج ثقافتها وتكتلاتها القديمة.

كان من الطبيعي، بحسب هذا الوضع، أن نشهد إرتداد المواطن إلى الكيانات التقليدية التي يرى أنها توفر له الحماية، وتحقق له الاستقرار، وتغذي وجوده المادي والمعنوي، فكانت القبيلة المثال الأبرز لذلك وكثيرا ما كانت القبيلة حاضنة للفرد، ومعها كان الفرد متمتعا بقدر أكبر من الحرية في دولته الحديثة، إضافة إلى أن قيم العشيرة لا تزال حاضرة ومتجذرة بقوة في وجدان الفرد وممارسته.

ولا تزال القبيلة ينظر لها على أنها رافدا أساسيا في معاملات الفرد السلبية أو الايجابية مثل قيم النخوة والكرم والشهامة، كما أنها لا تزال تشكل ناظما اجتماعيا للحقوق والواجبات.

إن تقبل الإنسان العربي ثقافة القبيلة جعل هذه الثقافة ومفاهيمها تعيش في الحاضرة كما في البادية أو الريف، أما النسيج الاجتماعي الحالي في معظم الدول هو عبارة عن خليط تمتزج فيه قيم المدينة بقيم البداوة، وإن كانت القيم القبلية وقيم البداوة فاعلة أكثر، ولها وجود واضح في كل أزمة أو صراع.

فالكثير من المدن لا تزال مناطق تَوطُّّن قبلي عشائري أكثر منها مدنا حضرية بما فيها بعض العواصم.

ولم يقتصر التأثر بثقافة القبيلة على الأفراد والجماعات، بل حتى الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني تأثرت بها، بل ارتدّت إليها لتقوّي نفسها عبر المكونات الاجتماعية التقليدية القديمة.

القبيلة هي مكوّن جذري عميق في الثقافة الاجتماعية، تستبطنها الهويات وتتجه نحوها الولاءات في الأزمات .

إن ما يجعل القبيلة مقبولة ومرغوبا فيها هو بساطتها البدائية، وعمقها في الوجدان الإنساني، فعندما يتعرض المجتمع لأزمة طاحنة، أو خطر داهم، يعود الفرد إلى الانتماءات التي يجد فيها الأمان والطمأنينة، ويستعملها كأدوات لتحقيق المصالح وكسب المنافع.

بينية العلاقات القبلية التقليدية كانت حيوية في السابق، وفاعلة في زمان ومكان معين، لكنها صارت معرقلة معطلة أكثر مما هي مساعدة في مراحل التحول الديمقراطي وبناء الدولة المدنية الحديثة.

___________

(*) مقتطفات من دراسات القبيلة والديمقراطيةالمنشورة على موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 

مقالات مشابهة