بالرغم من التضارب القائم حول تعريف الدولة المدنية، فإن عددا من المفكرين والباحثين يتفقون على عدد من خصائصها من قبيل انبنائها على أسس ديمقراطية، واحترامها للتداول السلمي على السلطة المبنية على شرعية الانتخاب والتفويض، بالإضافة إلى انبناء مفهوم الحقوق فيها على المواطنة بعيدا عن أي اعتبارات دينية، لغوية أو عرقية، وفيها يسمو القانون على كل الاعتبارات

وإلى جانب هذه الخصائص التعريفية، يستعمل مصطلح الدولة المدنية أحيانا للإشارة إلى التقابل بين ما هو عسكري وما هو مدني. إلا أن هذا المصطلح كرس للتدليل على جهاز الدولة، كجهاز محايد تجاه المعتقدات الخاصة بالأفراد وحتى بالجماعة ككل مما يضفي على هذا المصطلح دلالة أداتية في ممارسة السلطة.

وقد عم رفع هذا المصطلح كشعار اليوم في عدد من البلدان وبخاصة في البلدان العربية والإسلامية.

ولعل شيوع مصطلح الدولة المدنية بشكل كبير في هذه الفترة، يعود إلى تجارب الإسلام السياسي وإلى استشراء العنف الرهيب الذي ينسب ذاته إلى الدين والذي شكل أكبر إساءة إلى القيم النبيلة والسامية للدين.

الأرضية الفكرية لشعار الدولة المدنية هي أرضية الفكر السياسي الحديث الذي طور تصورا وظيفيا متميزا لدور الدولة في المجتمعات الحديثة.

وهذا هو ما يشكل الأصول الفكرية لهذا المصطلح الشعار٬ وهذا أيضا هو ما يشكل لا فقط خلفياته الفكرية، بل كذلك ارتباطه الشبكي بسلسلة المفاهيم المشكلة للحداثة السياسية كمفاهيم المواطنة٬ والتمثيلية٬ والحقوق٬ والدور الوظيفي المحايد للدولة إلى غير ذلك من المفاهيم المؤسسة للوظائف الأساسية للدولة الحديثة.

إن العودة إلى مفهوم الدولة المدنية بالدرس والتحليل، ليس مجرد ترف فكري بل يعتبر في اعتقادنا حاجة ملحة بالنظر إلى الحركية التي عرفتها منطقتنا مع حلول الألفية الثالثة حيث تميزت المرحلة بانطلاق حركة احتجاجية واسعة ساءلت نموذج الدولة القائمة والتي افرزتها هذه الحركية في عدد من البلدان.

وما يجعل هذه المساءلة ذات مشروعية هو المآلات التي انتهت إليها العديد من النماذج حيث بدأت الحراكات سلمية في البداية تم تحولت بالتدريج إلى حركية لا تخلو من عنف إرسالا واستقبالا وهو ما جعل هذه الحركية تتعثر في طريقها رغم إسقاطها للعديد من رموز الاستبداد.

تعثر هذه الحركة يعود كذلك إلى أن الاختيارات الديمقراطية جعلت هذه المجتمعات تعرف تحولات سياسية خاصة مع صعود بعض حركات الإسلام السياسي إلى السلطة وحدوث صراعات متعددة الأطراف لم تكن محسوبة ولا متوقعة.

وفي هذا السياق، تظل مسألة الدولة المدنية سواء كمفهوم أو كممارسة موضوعا جديرا بالتأمل والمدارسة والتحليل.

______________

مقالات مشابهة