عماد علي نقريش
العوائق الأمنية للإنتقال الديمقراطي في ليبيا
ارتكز مفهوم الأمن الوطني لليبيا خلال فترة النظام السابق على أمن النظام، إذ تأسس على المحافظة على النظام السياسي وسبل تعزيزه وتقويته. وهناك العديد من المظاهر التي أكدت سيادة هذا المفهوم، نذكر منها تحييد المؤسسة العسكرية وحلها، وتشكيل قوات بديلة تحمي النظام، واعتماد التجنيد للمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية على المصادر التقليدية، كالقرابة والولاء الأيديولوجي.
وبوجه عام، يمكن القول إن الثورة أطاحت بنظام أمني فشل في استيعاب مفهوم الأمن الإنساني، فهو أمن نظام وليس أمن وطن ولا أمن مواطن كما يستخدم الوسائل القهرية أكثر من استخدامه الوسائل السلمية.
الأمور بعد الثورة لم تتحسن بأي شكل، بل ساءت من أوجه عديدة، والليبيون يعبرون عن قلقهم بسبب الأوضاع الأمنية بأكثر من أسلوب. فأكثر من ثلثي الليبيين يطالبون بمنع الإنضمام إلى القوات المسلحة في شكل مجموعات منظمة، ويمنع التشكيلات العسكرية خارج إطار القوات المسلحة، ويمنع تدخل القوات المسلحة في الحياة السياسية.
كما أن الأوضاع الأمنية في البلاد ليست مستقرة بما يكفي لسير عملية الديقراطية. الحال أنها ليست مستقرة لسير الحياة نفسها، فحين يتزعزع الأمن تتزعزع ثقة المواطن في كل شيء.
رأس المال لا يرعبه شيء قد ما يرعبه غياب الأمن، وفي غياب الأمن لا سبيل لقيام دولة المؤسسات، ولا لإعمال أحكام الدستور الذي يؤسس لقيامها. أما القيم فحظها في غياب الأمن ليس وافرا، فحين يكون هاجس المرء الحفاظ على حياته، لن يكون هناك متسع في ضميره للتراحم، أو التسامح أو التكافل أو الإيثار أو الإنصاف.
ولا شك أن من أهم معوقات الانتقال الديمقراطي في ليبيا تلك الصراعات بين المؤسسات الحكومية في ليبيا تمثل مبرر لمزيد من الهجمات الإرهابية، على النحو الذي وقعت على أساسه تفجيرات اللجنة الانتخابية. فبدون هذا الصراع الداخلي، لن يكن لداعش فرضة للوجود في ليبيا. إذ يمكن النزاع المسلح بين
القوات التابعة للمجلس الرئاسي من جهة والقوات المنتسبة لخليفة حفتر من جهة أخرى، أن يكون فرصة ذهبية لبقاء التنظيم على الأراضي الليبية، ولو لم يتمكن من الاستحواذ عليها، ويحافظ على قدرته على تنفيذ الهجمات الإرهابية في منطقة الهلال النفطي، والمنطقة الوسطى حول الجفرة، وكذلك في جنوب ليبيا، ناهيك عن الخلايا النائمة في أجزاء أخرى من البلاد، بما فيها المنطقة الغربية.
كما انتشرت الجماعات المسلحة المتطرفة في غرب وشرق ليبيا، بما في ذلك التي لها علاقات وثيقة مع القاعدة ومجموعات السلفية المدخلية.
أدى النزاع المسلح المستمر بين مختلف المجموعات العسكرية وشبه العسكرية في سياق صراعها على السلطة إلى شل السلطتين التشريعية والتنفيذية،بالإضافة إلى تقويض المصالحة الوطنية وعرقلة التقدم الذي أحرزته جلسات المصالحة المحلية في ليبيا والمدعومة من الأمم المتحدة.
لجنة الحوار السياسي وتأثيرها السلبي على الحياة اليومية للمواطنين، وتوافر الخدمات العامة، حيث لا تزال المؤسسات الليبية غير قادرة على ممارسة مهامها، ومنها مجلس النواب، ومجلس الدولة، ومجلس الرئاسة، والنظام القضائي والمؤسسات الأمنية.
بالإضافة لما سبق، فإن الجهات الفاعلة الخارجية كان لها دور ومساهمة في عدم استقرار ليبيا من خلال دعم المجموعات المسلحة في غرب وشرق ليبيا، بما في ذلك الجماعات المتطرفة. وهذا الدعم يشكل انتهاكا خطيرا للحظر المفروض على الاسلحة، وهو خرق لا يزال يوثق من قبل لجنة خبراء مجلس الأمن.
علاوة على أن القتال بين المجموعات المسلحة المرتبطة بالمجلس الرئاسي وقوات حفتر في الشرق يعرقل بشكل مباشر أي تحقيق للعملية الانتخابية. مما يطرح السؤال التالي:
كيف يمكن ضمان عدم تدخل المجموعات المسلحة خلال العملية الانتخابية؟
وفي هذا الصدد تخشى منظمات المجتمع المدني المسجلة التي تعمل ضمن أطار قانوني مفيد لعملها، التدخل المرجح للمجموعات المسلحة في العملية الانتخابية من خلال منع المنظمات من القيام بدورها في مراقبة مراحل العملية الانتخابية
تشهد عملية الانتقال الديمقراطي في ليبيا جمود شديد بسبب الفشل في إحراز أي تقدم على الصعيدين الوطني والدولي فيما يتعلق بإصلاح القطاع الأمني الليبي.
فمنذ انتفاضة فبراير 2011، لم تضع السلطات التشريعية الليبية المتعاقبة استراتيجيات وطنية أو خطط واضحة لإعادة بناء المؤسسات الأمنية الوطنية. بدلا من ذلك، عززت قوانين ومراسيم من المجلس الانتقالي من جهة والمؤتمر الوطني العام من جهة أخرى لإنشاء هياكل أمنية موازية لا تسيطر عليها الدولة.
كما أصدر المجلس الرئاسي وجيش حفتر قرارات بضم مجموعات مسلحة مدنية تسمى بأولياء الدم والمجموعات السلفية المدخلية، على نحو زاد من تفاقم تجزئة المشهد الوطني نظرا لعملها من خلال مجموعات مسلحة مفتتة وليس افراد ينتمون لمؤسسات أمنية وطنية لها آلية للدمج بتسلسل إداري واضح.
وأعطت المؤسسات الليبية المتعاقبة هياكل أمنية موازية مثل اللجنة الأمنية العليا للدفاع عن ليبيا، وغرفة ثوار ليبيا، والحرس الوطني، والتحالف المسلح لفجر ليبيا، وعملية الكرامة، ومناصب سيادية في وزارتي الدفاع والداخلية.
كما حدث سابقا مع حفتر، الذي كان قائد مجموعة شبه عسكرية وهي “عملية الكرامة” ويدعي الآن أنه يقود ما أسماه “الجيش الوطني الليبي“. كما تستفيد هذه المجموعات من أموال طائلة من خزينة الدولة، بينما تستمر في العمل بالاسم فقط في مؤسسات أمن الدولة.
ولا تزال هذه المجموعات المسلحة، التي لا تخضع بشكل كامل لمؤسسات الدولة، ترتكب بانتظام العديد من الهجمات العشوائية التي تستهدف المدنيين والبنية التحتية المدنية، بالإضافة إلى قوانين العفو، مثل قانون رقم 35 لعام 2012م الصادر عن المجلس الانتقالي، والقانون رقم 6 الصادر من مجلس النواب في 2015م.
وما زالت عمليات القتل خارج نطاق القانون والتعذيب والاحتجاز التعسفي والجرائم التي تصل لجرائم حرب ترتكب في ظل الإفلات التام من العقاب، وعلى المجلس الرئاسي ومجلس النواب التوقف عن تكرار هذه الأخطاء المميتة.
في حين أن المجلس الرئاسي لا يزال ضعيفا ومنقسما وغير قادر على اتخاذ أي خطوات حقيقية فيما يتعلق بعملية التدقيق في القطاعات الأمنية الليبية، على النحو المنصوص عليه في المادتين 34 و 42 والملحق السادس لاتفاقية السلام الليبية.
ولم يًنظّم المجلس الرئاسي الترتيبات لوقف إطلاق النار وانسحاب الجماعات المسلحة من المدن. كما أنها لم تحدد قواعد العمل وقواعد الاشتباك للجيش والشرطة في التعامل مع الجماعات المسحلة، والإجراءات التأديبية والجنائية، وتدابير مراقبة التنفيذ وفعالية الترتيبات الامنية المذكورة أعلاه.
ولعل عدم إعطاء الجهود الدولية الأولوية لعملية تدقيق شفافة لقطاعات الأمن، قد قوض كثيرا من أصلاح القطاع، وفتعاملت دول عظمى مثل إيطاليا بشكل مباشر مع مجموعات مسلحة في الشرق والغرب، مما أدى للفشل في إنشاء مؤسسات أمنية وطنية موحدة. هذا بالإضافة إلى الدعم الضعيف للمحكمة الجنائية الدولية، والتي بإمكانها أن تلعب دور رادع فعال في مواجهة المجموعات المسلحة المهددة للعملية الانتخابية.
جدير بالذكر أنه في ظل استمرار شلل النظام القضائي الليبي تكون المحكمة الجنائية مختصة بالتحقيق وإصدار أوامر اعتقال بحق مرتكبي الانتهاكات الجسيمة.
وبناء عليه يتعين على المجتمع الدولي ـ ولا سيما مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي ـ مضاعفة دعم المحكمة الجنائية الدولية حتى يكون دورها للمساءلة فعالا.
…
يتبع
***
عماد علي نقريش ـ قسم الدراسات الشرعية ـ أكاديمية الدراسات الاسلامية ـ جامعة ملايا
________________
المصدر: مجلة كلية الشريعة والقانون ـ جامعة الأزهر ـ العدد 35 ـ الجزء الأول (الاصدار الثالث) ـ يوليو 2023م